ألجأتني الحاجة ليلا إلى تلك الضرورة -أعتذر إليكم- فأنا بهذا الكلام أجرح ذوقكم العام؛ حاولت ألا أخبركم بتلك الحادثة التي عرضت لي فيما بعد، كان لا بد لي من ذكرها؛ فأنا مصاب بخرف الحكي مما يجعلني أتكلم كثيرا، ربما في المستقبل يجد الأطباء علاجا لتلك الحالة؛ لكنهم الآن منشغلون في علاج فيروس كورونا القادم من بلاد تزيف كل شيء؛ فبرودة الشتاء تكون داعية إلى تلك المتلازمة القسرية من الذهاب إلى دورة المياه، تلك طبيعة الكائنات الحية وقد يكون العذاب حين تحتبس في دواخلنا؛ كنت مترددا في الكتابة في العمود اليومي لصحيفة الأخبار العاجلة؛ سيما وكل الموضوعات صارت تافهة بل معادة، قلت لأسرد وقائع تلك الحادثة؛ علّي أستهوي القراء بهذا؛ مؤكد أن بعضكم سيغلق أنفه وأما الآخرون فلن يهتموا بالقراءة.
سيقولون هذا رجل يكتب أشياء صغيرة، يجدر بنا ألا نهتم بها، لمَ يتعبنا في تلك الترهات؟
وجدت عنوانا مناسبا لمقالتي “وباء الكائنات المجهرية”.
هذه بدعة جديدة؛ سيرد أحد الذين يرتدون المعاطف وينظرون إلى طلابهم بازدراء، يسكنون معاملهم؛ يبدو أن القوى الكبرى تشن حربا من المرحاض؛ تنتابني حالة من السخرية لا معنى لها.
ثمة صرصار يقف أعلى صندوق المرحاض؛ يحرك رجليه الأماميتين ويلامس شفتيه بقرني استشعاره؛ يبدو أن تلك شارة متفق عليها بينهم أو لغة التواصل عندهم، فجأة خرجت جموع غفيرة من فوهة البالوعة. أسفل صنبور المياه بيئة رطبة مناسبة لتتوالد كافة أنواع البعوض والحشرات، تساقطت أعداد لم أتبين من أين أتت، صرت محاصرا داخل دورة المياه، بدأت تلك الكائنات تصعد فوقي وتتقافز طائرة؛ وصلت إلى أذني، انتفخت وتورمت واحدة منها، رأيتها تغرس أنبوبها اللزج داخل ذراعي؛ انتابني الرعب، حاولت الخروج إلا أنها كانت تسد الباب.
يتناهى إلى أذني خبر مفزع في نشرة الأخبار عن وباء قادم من مدينة يوهان في أقصى الشمال الغربي من قارة الصين التي تضم ما يقارب ثلث سكان العالم؛ تتشابه ملامح وجوهم؛ أتساءل: كيف تتعرف النساء هناك على أزواجهن؟!
ينتقل ذلك الوباء بسرعة مريبة؛ في تلك البلاد تجري أمور غريبة؛ سمعت أنهم يأكلون الفئران ويستطعمون مذاق الحشرات؛ كانت جدتي تقول عنها: بلاد نمنم؛ ترى هل تسربت تلك الحشرات إلينا؟
بدأت أفكر في طريقة للخروج، أغمضت عيني اليسرى مدعيا العمى؛ حين رآني كبيرهم، قهقه بصوت أعرفه؛ كان الأستاذ القط والذي يبدو نحيلا لدرجة تثير الشفقة؛ قيل إنه ولد في صيف شديد الجفاف كان معلم مادة الأحياء في مدرستنا، لا أدري هل مات أم لا؟
حذرنا من حروب بيولوجية تأتي إلينا في حاويات الملابس القادمة من بلاد نمنم تلك؛ مؤكد أنهم هناك يأكل بعضهم بعضا.
ضغطت على الصنبور بقوة؛ ليتني ما فعلت، لقد تداعت جموع منها حتى شربت كل الماء، ناديت على زوجتي لتنقذني؛ فهي دائما لا تهتم بي؛ تمسك بهاتفها النقال وتكثر من الرغي مع إحدى زميلاتها؛ تدور بينهما نميمة عن زميلتهم التي هجرها زوجها وتزوج بأخرى؛ لو أنني فعلت مثله!
تهتف بي زوجتي؛ أدركني: حشرات غريبة تخرج من شاشة الهاتف، بدأت تغزو حجرات شقتنا؛ تتداخل في ثياب زوجتي؛ يا لها من كائنات وقحة؛ تنام في سريري، تتسافح وقد ارتدت أنثى ملابس زوجتي؛ منذ زمن لم أرها تضع فوق شفتيها تلك الأصباغ الحمراء؛ بل ربما نسيت أن تتزين؛ نحن في جفاف لا يمكن تخيله؛ تسخر تلك الحشرة اللعوب وتتمايل في تخابث.
أحاول أن أرد عليها؛ تتراكم طبقات من تلك الكائنات الغريبة؛ النافذة مسدودة هي الأخرى؛ لمبة الإضاءة تبث إشارات حمراء؛ نداء في الشارع؛ على سكان المدينة ألا يخرجوا من منازلهم؛ ضعوا كمامات على أنوفكم وأفواهكم؛ تتراقص تلك الحشرات في سعادة.
هل أستعطفه فيأذن لي في الخروج؟
بدأ البكاء يعاودني؛ شعرت بضعفي، حين ذاك أصدر أوامره؛ أمسكت بمقبض الباب، خطوت مذعورا؛ ثيابي مبللة؛ تتراقص في الممر حشرة صفراء؛ إنها تشير إلي في سخرية؛ احتضنت زوجتي؛ تلاحمت أنا وهي؛ تخيلوا منذ مدة لم يقترب أحدنا من الآخر.
علها تكون فرصتنا الأخيرة لمقاومة ذلك الوباء؛ أشرت إليها أن تتبعني إلى حجرتنا ذات الألوان القرمزية؛ تبا لتلك الحشرات فقد احتلت الأسرة والمعاطف بل الأقمصة الحمراء التي خدعتني بها زوجتي؛ سأحاول في المرة القادمة أن أقاوم تلك الحشرات الزاحفة.