انتهت فترة من الزمن دخلت فيها حالة موت سريري فقدت القدرة على مطالعة لوحة الزمن المثبتة على الحائط الذي صار باهتا بعد وفاة أبي كل الأشياء بعده فقدت معناها؛ تشابهت الأيام في ذلك العزل الاختياري الذي أحكمت خناقه حول جسدي أشبه بالشرنقة التي طالما حبستها في علبة الكبريت ومن ثم أتوهم الحرير أبتاع به الدمى قطارا يجوب البلاد.
يريني الوادي بناسه ونهره، أن أذهب بعيدا حيث الشلال بل أمعن في الخيال بأن أرتحل حيث كتب الطيب صالح عن “دومة ود حامد” هل تراني سأجد “ضو البيت”؛ تعاودني الحمى أجدني أحد الذين ابتلوا بـ”ثرثرة فوق النيل”
بدت صورة العالم مغايرة عما تعودت عليه؛ الصور القادمة من بلاد العالم المتمدين مفزعة؛ هل تراها تخاريف محموم؛ وكثيرا ما تمثل تلك الهواجس صورا زائفة.
بدت لي حياتي شجرة توت ضربتها صفرة الخريف؛ تداعى جسدي وافترستني الحمى؛ المحيطون بي أشفقوا علي؛ بعضهم أخبرني أن تلك حالة عابرة غير أن أمي وحدها من بينهم تأتي وتنظر وجهي تتفرس ملامحي تقلب عيني؛ تتمتم ببعض أدعيتها، لم تعد لي حاجة بالطعام أو الشراب؛ ضربني الهزال فتناقص وزني، نشرة الأخبار تعدد الإصابات بذلك الوباء الذي يجتاح العالم.
شاحنات الموتى لا تجد حفرة لتترك فيها الضحايا.
يتناهى إلى سمعي صوت المتحدث باسم البيت الأبيض: مختبر أبحاث في مدينة ووهان ربما يكون هو من سرب هذا الداء.
تمزح زوجة أخي الصغير قائلة: يبدو أنك من هؤلاء.. يجتاحني الغضب؛ أكاد أختنق؛ رئتاي أشبه بحجرة أنوء تحت ثقلها.
أطلب حبات من دواء خافض للحرارة؛ شعور بأنني راحل يلح علي، يحاول الصغار الاقتراب من فراشي فتنهرهم أمي؛ تقف حارسة تحول بيني وبين مرض يوشك أن يفترسني، شجرة الليمون التي غرسها أبي منذ عشرين عاما يأتون بحباتها إنها لم تبخل ساعة على الآخرين غير معقول وأنا من تعهدها بعده بالماء والسماد ألا تسعفني ببنت زهر صفراء أو خضراء.
ترتفع حرارة جسدي حتى تقترب من الأربعين؛ تتداخل أطياف أبي وتلوح لي من بعيد صورته؛ ينادي علي؛ يبسط يديه لكنه فجأة يقبضها، يخبرني بأنه لا يحتاجني.
أشار بيديه مودعا؛ إنه في عالمه الآخر يحصد ما غرسته يداه من بر كان يهبه للآخرين؛ كان يضع الحب للعصافير ويترك حوض الماء مملوء لتنهل منه.
ينهرني إن وجده فارغا.
حين هممت بمغادرة السرير عجزت قدماي؛ فقدت توازني؛ بالفعل أنا مصاب بداء شديد، خشية أن أسافر بعيدا دون أن أملي ناظري ممن حولي فتحت النافذة تطلعت إلى شجرة الرمان التي تفتحت بورد أحمر؛ كرمة العنب تتدلى منها أشباه العناقيد؛ غير أن كلبنا ما كف عن النباح طيلة الليلة الماضية.
كانت جدتي تقول دائما: إن الكلاب تشاهد تساقط أوراق الجيران المقبلين على الموت.
أسأل نفسي: هل سقطت ورقتي ومن ثم يرفع الكلب رأسه لينوح علي؟
تذرف زوجتي الدموع؛ تأولت لها أمي رؤياها العابرة؛ سيشفى قريبا.
ابتسمت إذ لم تبدل في ذلك الحلم ثيابها.
لا أشعر بمن حولي؛ يتهامسون خشية أن يحدث صوتهم إزعاجا لي؛ حتى السماء ملبدة بالغيوم، كل شيء في هذا المكان صامت أخرس، أجرب أن أتنفس كما كنت أفعل من قبل؛ يعجزني كل هذا.
حين عاودت الطبيب أخبرني بأنني أدركتني عناية الله!