في بيتي مئات الضيوف يجلسون حولي في صمت، أستدعي منهم من أشاء وأصرفه وقتما أشاء، يحدثونني عن تجاربهم وأفكارهم، ويُمتعونني بفنونهم وإبداعاتهم وأسفارهم وتأملاتهم.. إنهم ضيوفي الجالسون في صمت ووقار فوق أرفف المكتبة.
استثمرت فرصة عزلة “كورونا” في إعادة تصنيف وترتيب مواضعهم على أرفف المكتبة، وجدتهم أجمل وأعز ضيوف على ما بينهم من اختلاف في الزمان والمكان والمعتقد والأفكار والمواهب.
وجدتهم خليطًا بديعًا بين عالِم وفنان وأديب وشاعر ومفكر، وجدت الملحد بجوار المؤمن والسُّني بجوار الشيعي والعربي بجوار الأجنبي، من إلحاد “البير كامي” و”جان بول سارتر” إلى إيمان “محمد الغزالي” و “محمد باقر الصدر”، ومن جزالة “امرئ القيس” إلى لطافة “أحمد فؤاد نجم”، ومن تجربة “مهاتير محمد” و”لي كوان” إلى “شارلي شابلن” و”روز اليوسف”، ومن فصاحة “الرافعي” إلى سلاسة “الحكيم”، ومن نضج “مالك بن نبي” إلى ثورية “علي شريعتي” إلى جنوح “أركون”، ومن رصانة “زكي نجيب محمود” و”محمد عابد الجابري” إلى شطط “سلامة موسى” و”فؤاد زكريا”..
كل هؤلاء على ما بينهم من مسافات بعيدة ضيوف مُرحَّب بهم في بيتي، بل هم أصحاب الفضل بكونهم نزلاء في حديقة عقلي، نعم.. هم أصحاب فضل؛ فآراؤهم المتعارضة ومناهجهم المتباينة هي التي أعطتني القدرة على رؤية الأشياء بزاوية منفرجة، وجعلتني أدرك أن بين الأبيض والأسود ألوانًا عديدة، وبين الخير والشر درجات في التمييز بين خير الخيرين وشر الشرين، وأن الحق والباطل ليس فقط إيمانًا وكفرًا؛ بل كل ما ينفع الإنسان والعمران هو حق، وكل ما يضر بالإنسان والعمران هو باطل.
مع ضيوفي فوق أرفف مكتبتي أعيش في عالم فسيح، أسافر فيه في الزمان عبر كتب التاريخ، وأسافر في المكان مع الرحالة والمغامرين والمكتشفين، وأسكب عبير الروح في وجداني من علماء الدين، وأصب في نهر عقلي الموار من عصارات أفكار المفكرين، وأهيم في عالم الجمال والخيال مع الشعراء والأدباء والفنانين.
كَمْ أنا محظوظ بكم أيها الضيوف الأعزاء، وكم كنت سأكون خاسراً لو أنفقتُ العمر دون أن ألقاكم، وكم كنت سأكون أكثر خسراناً لو اخترتكم جميعاً من لون واحد ومن منهج فكري واحد.
ومن ديوان ضيفي العزيز الأثير “أبي الطيب المتنبي” أقتبس واحداً من عيون حِكَمِه وأقرب أبياته إلى قلبي:
أعَزُّ مَكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سابحٍ وَخَيرُ جَليسٍ في الزّمانِ كِتابُ