هذه الحلقات المتتابعة في أفكارها هي مجرد مُمَهِدَات مقدمة إلى الحركة الإسلامية في بنائها الجديد المنتظر، فأغلب أبناء الحركة والمتابعين لها يؤكدوا على ضرورة تجديد البناء، والتجديد في فكرنا الإسلامي وتراثنا يرتبط بتغيير الأفكار لا يتغير الهياكل أو الشكل – وإن كان ذلك مطلوبًا في وقت ما- ومن ثم جاءت هذه المُمَهِدَات المعرفية – والتي هي عبارة عن: استبطان ذاتي لأحد أبناء هذه الحركة الذي عاش فيها عن قرب تارة وبعد تارة أخرى، ما يقرب من ربع قرب، واهتم بأمرها وشأنها وما زال، يؤلمه ألمها، ويحزنه ما صارت فيه وإليه.. لذا فهذه الرؤية أو المُمَهِدَات المعرفية، تعتبر رؤية للإصلاح والتجديد من داخل الحركة وليست من خارجها.
بناء بصائر الوعي بالواقع
يشمل الواقع ثلاث وحدات من الزمن (الماضي والحاضر والمستقبل)، وإن كان “الواقع” لغة: يقصد به ما وقع بالفعل أو ما سقط بالفعل، ولكن المعنى القرآني يضم المعاني الثلاثة للزمن أو الواقع، وتجعل الماضي مرتبط بالحاضر وكذلك بالمستقبل ويظهر ذلك جليًا في المعنى المباشر والقريب لقوله تعالى {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] ويزخر الوحي بمعان الزمن الثلاثة تأكيد وتربية وتنبيه للمجتمع المسلم، وكذلك السنة النبوية التي وضعت أسس منهجية قراءة الواقع تنظيرًا وتطبيقًا.
إن الوعي بالواقع للحركة والمجتمع ضرورة من ضرورات الأحياء، ولازمة ضرورية لإحداث التطوير والتطور اللازمين لحياة البشر، وذلك بما يقدمه للإنسان من خبرات بالماضي تفيده في اختصار كثير من الوقت والجهد في الحاضر، ويساعد على التخطيط الراشد والمرشد للمستقبل، وتجنب المعوقات التي حدثت في الماضي أمام الحركة والمسير.. أو البحث عن حلول لمشكلات أدت إلى خسائر في الماضي حتى لا تتكرر في الحاضر والمستقبل.
والقرآن يلوم ويعاتب ويذم أولئك الذين لم يعتبروا بالماضي ولم يكن لهم تأثير في حاضرهم في تغيير الرؤى والأفكار وآليات التعامل وغير ذلك {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}. [الأنعام: 6]
والملاحظ في النتيجة التي وصلت إليها الحركة الإسلامية في أعوامها الأخيرة -والتي كانت نتاج رئيس لتراكم أحداث امتدت إلى ما يقرب من قرن من الزمان – أن الحركة لم تستفد من دراسة الواقع بجوانبه الثلاثة (الماضي – لاسيما ماضيها- والواقع الآني- والمستقبل) وتفاصيل ذلك ليس موضعه هنا.
إن الحركة الإسلامية المعاصرة تحتاج إلى ثلاثة أجهزة ضرورية لدرس الواقع وتشغيل بصائر الإدراك فيه:
- الجهاز الأول: جهاز درس الماضي الخاص بها من كافة جوانبه الحركية ومساراته وعلاقاته وأزماته وخسائره ومكاسبه والايجابيات والسلبيات، هذا الجهاز يقوم عليه متخصصين في علم الاجتماع والسياسة والدعوة.
- الجهاز الثاني: جهاز درس الحاضر وكافة المتغيرات الحاكمة من وجهات نظر علمية وخبرات وتخصصات تلم بذلك الواقع لتحقق درجة ” البصيرة” به، لتكون القرارات التي تأخذها على بصيرة {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]. فالبصيرة تقتضي ضمن ما تقتضي التخصصية والعلمية، كما أنها تقتضي الميدانية الحركية، والدعوية الشرعية.
- الجهاز الثالث: جهاز درس المستقبل، وهو الوحدة الثالثة في الزمن الذي تحيا فيه الحركة وتمارس أنشطتها وسلوكها وليس منفصلًا عن الحاضر ولا الماضي، وهذا يعني توفير قطاع من أبناء الحركة ليتخصص في المستقبليات وهو علم وضع أصوله النبي صلى الله عليه وسلم، واستعان فيه بخبرات حتى غير إسلامية (كالاستعانة بعبد الله بن أريقط مثلاً في التخطيط للهجرة).