أعطى الانتقال من 2020 إلى 2021م فسحة أمل في الخروج من عنق الزجاجة، في ظل الحديث عن لقاحات ضد كورونا. لكن تزامنًا مع مستجدات الأزمة الصحية وتداعياتها، شهد مطلع عام 2021م أحداثا لافتة للنظر من حيث المفارقة بين تطور الوضع الأوروبي الغربي والوضع العالمي عموما.
خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي
في الفضاء الغربي، حصل حدثان كبيران في ظرف قصير: خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي فيما يعرف بـ”بريكست”، وهجوم أنصار دونالد ترمب على مقر الكونغرس الأمريكي.
فقد سجّل مطلع 2021 نهاية علاقة عضوية دامت خمسة عقود بين بريطانيا وبلدان أوروبا بعد عملية شد وجذب ومخاض عسير. ويعدّ انفصال عضو عن الجسم الأوروبي -في حدّ ذاته- مؤشرا سلبيا إذا تم الأخذ بالاعتبار فلسفة مشروع الوحدة الأوروبية الذي يهدف إلى بناء كيان قوي يمثل قطبا دوليا منافسا للقوى الكبرى، في وقت يتجه فيه العالم نحو تقوية التكتلات الإقليمية.
وحتى إن اتخذ هذا الانفصال شكل “الطلاق بالتراضي”، فإنه يحمل في طياته بوادر ضعف وحالة أزمة داخلية يعيشها الكيان الأوروبي زادت من مضاعفاتها أزمة كورونا التي أرهقت العالم، حكومات وشعوبا، إلى حدّ لم يشهده العصر الحديث إذا استثنينا الحروب الكبرى، وكانت تداعياتها عميقة في الفضاء الأوروبي حيث نسبة الشيخوخة المرتفعة في ظل تباين السياسات وتخبطها وجدل بشأن قدرة البنية الصحية على مواكبة انتشار الوباء.
أزمة عميقة تشق المجتمع الأمريكي
في الجانب الآخر من الأطلسي، تابع العالم مصدومًا مشاهد اقتحام أنصار دونالد ترمب لمقر الكونغرس الأمريكي يوم 6 يناير الجاري. وإذا كان البعض يعتبر ما حصل حدثا عابرا ومجرّد رد فعل من طرف متحمّسين لترمب، فإن أغلب الملاحظين يؤكدون أن الأمر أعمق مما يظهر على السطح. فهناك أزمة عميقة تشق المجتمع الأمريكي نتيجة تجذر ظاهرة الشعبوية بين مفاصله. وبلغ الأمر درجة عالية من الخطورة مع استهداف مؤسسات الدولة السيادية لأعتى دولة في العالم، إذ لم يقتصر الاحتجاج على التظاهر في الشارع وعلى أشكال الاحتجاج المشروعة الأخرى، بل تعدّاه إلى أساليب الهجوم والتمرّد التي وصفها البعض بعمليات “الإرهاب الداخلي”.
ثم إن جحافل المحتجين الذين هجموا على الكونغرس، هم من فئات عنصرية ينتمي أغلبهم إلى ما يعرف بجماعة “براود بويز” (Proud Boys) أو “الأولاد الفخورون بأنفسهم” وهي جماعة يمينية متطرفة تؤمن بتفوق العرق الأبيض، وتنشر “الإسلاموفوبيا” وكراهية المهاجرين في أمريكا. وهم لا يعترفون إلا بقانون العنف والعجرفة، ومنهم من يفتخر بذلك، إلى حدّ الإقدام على ارتكاب جرائم، كما حصل عند الهجوم على مجلس النواب الأمريكي، حيث فكر البعض في قتل نواب، منهم نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب، وإلصاق التهمة بالمسلمين!
وكل الأنظار مشدودة إلى الولايات المتحدة حيث الجدل قائم بشأن مصير ترمب واحتمال عزله ومحاكمته بتهمة التحريض على العنف واستهداف مؤسسة سيادية. ولو تم ذلك فستكون فضيحة كبرى أخطر من فضيحة “واترغيت” في عهد الرئيس نيكسون، لأنها تتعلق برئيس دولة عظمى يشجع على “نوع من الإرهاب”، وهو أمر بالغ الخطورة.
ومن خلال ما حصل أخيرا في قلب واشنطن، عاصمة أقوى دولة في المنظومة الغربية بل في العالم، ومن خلال ما تشهده المنظومة الأوربية من اهتزاز وانفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي، ألا يعني كل ذلك أن النموذج الغربي في تراجع؟ وأن الديمقراطية على الطريقة الغربية ليست نظاما مثاليا وفيها عيوب؟ وأن عصر الهيمنة على الشعوب بحجة تقديم الديمقراطية لها في “طبق من ذهب” قد ولّى؟
المصالحة الخليجية
المتابع لتطورات الوضع الدولي يلاحظ مفارقة بين ما يحصل في الغرب -وتحديدا القوى الكبرى والمهيمنة- في اتجاه مزيد من التأزّم، في الوقت الذي تتجه فيه الرياح خارج الدائرة الغربية إلى نوع من الانفراج نتيجة حركة الوعي البطيئة ولكن الثابتة لدى الشعوب خارج الدائرة الغربية، وبداية الشعور بأهمية التكتل، لأن في الاتحاد قوة. وتجسد هذا التحول في أحداث شهدتها كل من القارة الآسيوية والقارة الإفريقية.
في هذا السياق، تأتي عملية المصالحة الخليجية التي تمت في قمة دول مجلس التعاون الخليجي، المنعقدة بمدينة “العلا” السعودية بتاريخ 05/01/2021 التي وصفها البعض بالحدث “التاريخي”، لأنها جاءت بعد أزمة عميقة تركت بصماتها على المجتمعات الخليجية وعلى الوضع الإقليمي.
أهمية هذه المصالحة تأتي من حيث توقيتها ومكانها؛ فقد تزامنت مع مؤشرات تغيير في سياسة الإدارة الأمريكية بعد وصول جو بايدن إلى سدّة الحكم في واشنطن، ثم إنها تخص دول مجلس التعاون الخليجي وهي كتلة اقتصادية وبشرية مهمة في منطقة استراتيجية في قلب ما يسمى بالشرق الأوسط.
ومهما كانت دوافع هذه المصالحة، فإن العبرة بالنتائج، وأهمها تخفيض منسوب التوتر الإعلامي والسياسي والأمني في المنطقة، وتنفيس الحياة السياسية، وعودة اللحمة بين المجتمعات الخليجية وجيرانها، وتكثيف التعاون الاقتصادي بين دول الخليج، وعودة الدفء إلى العلاقات الخليجية-التركية بعد أن كانت محدودة في العلاقات القطرية – التركية، واسترجاع الثقل الاستراتيجي لكتلة من أهم الكتل في العالم، علاوة على الأبعاد الخارجية وأهمها احتمال إيقاف النزيف اليمني والتناحر الليبي.. والسعي إلى رأب الصدع بين جميع أقطار الأمة الإسلامية شرقًا وغربًا.
ثم إنه لا يمكن الحديث عن مصالحة بدون الإشارة إلى دور الوساطة في ذلك. وهنا تجدر الإشارة إلى الدور الكويتي أساسا ثم المغربي والعُماني.. في عملية الوساطة من داخل البيت العربي المسلم، وهو مؤشر على وجود قدرات كامنة داخل المنظومة العربية المسلمة على رأب الصدع والدفع نحو ما يخدم المصلحة العامة.
ترسيخ مسار التكتل الإقليمي في آسيا وإفريقيا
إن الانفراج الذي حصل في منطقة الشرق الأوسط في إطار المصالحة الخليجية أضاف إلى القارة الآسيوية زخما جديدا. وفي نفس السياق، وخارج منطقة الشرق الأوسط تشهد آسيا الشرقية ترسيخ مسار التكتل الإقليمي. وشهد مطلع سنة 2021م تفعيل اتفاقية الشراكة الإقليمية الاقتصادية الشاملة (RCEP) بين 15 دولة والتي تم توقيعها خلال القمة الـ 37 لرابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان ASEAN) في منتصف نوفمبر 2020م. وكان من بين مخرجات هذه القمة برئاسة فيتنام توقيع أكبر اتفاق للتجارة الحرة في العالم يشمل 28% من التجارة العالمية ويغطي 30% من سكان العالم و30% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهي الاتفاقية التجارية الأولى التي تشمل أعضاء دول آسيان الـ 10 إلى جانب خمس دول هي الصين واليابان وأستراليا ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية.
وعلى مستوى القارة الإفريقية، يترسخ أيضا مسار التكتل الإقليمي داخل الاتحاد الأفريقي. ويشهد مطلع 2021 تفعيل مشروع “منطقة التجارة الحرة” للقارة السمراء، الذي صادقت عليه 28 دولة عضوة من أصل 55 في قمة الاتحاد الإفريقي المنعقدة بأديس أبابا عاصمة أثيوبيا في فبراير 2020. وتهدف منطقة التجارة الحرة إلى إنشاء سوق قارية واحدة للسلع والخدمات، بما يسهّل تنقل رجال الأعمال والاستثمارات، ويمهّد الطريق لتسريع إنشاء الاتحاد الجمركي. ويتوقع أن تعزّز هذه الاتفاقية التجارة بين البلدان الأفريقية بنسبة 52% بحلول سنة 2022 التي ستشهد عقد مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية الإفريقية “تيكاد 8″TECAD في تونس التي تحتفل اليوم 14 يناير بالذكرى العاشرة لثورتها فيما يسمى بالربيع العربي. وينتظر حضور نحو 50 رئيس دولة وحكومة إفريقية وأكثر من 11 ألف مشارك من مؤسسات من القطاعين العام والخاص وخبراء وأكاديميين وممثلي عن المؤسسات المالية الدولية. ويسعى مؤتمر تيكاد إلى تعزيز الحوار السياسي بين إفريقيا وشركائها، وحشد الدعم لصالح مبادرات التنمية الإفريقية.
دورة حضارية جديدة
ومن خلال ما تقدم، يتبين وجود مسارين مختلفين للوضع الدولي الراهن في مطلع 2021؛ مسار متعرّج للقوى المهيمنة في المنظومة الغربية، ومسار تصاعدي للتكتل الإقليمي في كل من إفريقيا وآسيا إضافة إلى جنوب القارة الأمريكية. بما يؤشر لدورة حضارية جديدة يشهدها العالم في العقود المقبلة.