إن المتتبع للموقف الأوروبي بشأن الملف الليبي يلاحظ مدى التخبط في هذا الموقف بين الأمس القريب واليوم، بين دعم عسكري ومادي للخارجين عن الشرعية بالأمس، وبين خطاب داعم للشرعية اليوم، ولعل أوروبا وجدت نفسها تورطت بمراهنتها على “الجواد الخاسر”، لذا فهي تحاول اليوم العودة إلى الساحة الليبية لحماية مصالحها بعد أن تمكنت قوى أخرى من تهميش الدور الأوروبي.
من مساندة القذافي إلى الانقلاب عليه
لا يمكن فهم التخبط الحاصل في الموقف الأوروبي تجاه ليبيا إلا بالعودة إلى الماضي القريب، وتحديداً إلى عقدين من الزّمن، عندما ظهرت مؤشرات الانفراج في علاقة القذافي مع الغرب عام 2003، حيث بدأت ليبيا تخرج من عزلتها بعد تخليها عن برنامج أسلحة الدمار الشامل، وتعويض ضحايا تفجيري لوكربي في إسكتلندا (270 قتيلاً عام 1988) وطائرة “دي سي-10” في أجواء النيجر (170 قتيلاً عام 1989)، المثير للانتباه هو الدور الفرنسي في عودة ليبيا إلى المجتمع الدولي، بعد أن كان القذافي العدو اللدود لأمريكا وبعد قطيعة وتوتر كبير مع الغرب.
وكانت باريس قد أبرمت اتفاقاً حول النووي المدني والتعاون العسكري مع ليبيا غداة الإفراج عن الممرضات والطبيب البلغاريين بعد 8 سنوات من الاعتقال في السجون الليبية، ومن بين الشخصيات التي ساهمت في التطبيع مع القذافي، الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي، حيث شهد عهده (مايو 2007 – مايو 2012) تقارباً كبيراً في العلاقات الفرنسية الليبية.
وخلال القمة الأفريقية الأوروبية بلشبونة عاصمة البرتغال في ديسمبر 2007، التي كانت تهدف إلى إقامة تحالف إستراتيجي بين الاتحاد الأوروبي ودول الاتحاد الأفريقي، التقى ساركوزي بالقذافي وصرح بقوله: “قلت للعقيد القذافي: إنني سأشجع عودته إلى الاحترام الدولي”، ودعاه لزيارة باريس.
أوروبا وجدت نفسها تورطت بمراهنتها على “الجواد الخاسر”
وكانت زيارة القذافي لفرنسا الأولى له لهذا البلد منذ عام 1973، والكل يذكر الاستقبال الحار الذي حظي به القذافي خلال زيارته إلى فرنسا في عهد ساركوزي في ديسمبر 2007، (استقبال القذافي بالبساط الأحمر وفي “الجمعية الوطنية” (البرلمان)، ولقائه بـ”مفكرين” من أعضاء الجالية الأفريقية واليونسكو، وزيارته لقصر فرساي الشهير ومشاركته في “رحلة صيد”، وتبعاً “لتقاليد الصحراء” نصبت خيمته في حديقة مقره الرسمي في فندق ماريني)، وقوبلت هذه الزيارة عندئذ بانتقادات شديدة تمحورت حول ملف حقوق الإنسان وتزامُنِ زيارة دكتاتور إلى باريس مع الذكرى السنوية لتبني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تجسد تقارب المصالح بين الطرفين في عقد صفقات سلاح واتفاقيات اقتصادية، ودافعت الأطراف الموالية للرئيس الفرنسي في ذلك الوقت وخاصة حزبه الحاكم “الاتحاد من أجل حركة شعبية” عن السياسة الواقعية التي ينتهجها ساركوزي، معتبرة أن مسألة بيع الأسلحة لم تعد من المحرمات منذ رفع الحظر الأوروبي عن ليبيا، واستطاع ساركوزي أن يقنع الأوروبيين بسياسته الواقعية باسم البرغماتية، حتى إن القمة الأفريقية الأوروبية عقدت في طرابلس عاصمة ليبيا في نوفمبر 2010 وخرجت بإعلان طرابلس، وما سميت بخطة العمل الثانية للإستراتيجية المشتركة لأفريقيا والاتحاد الأوروبي.
التحكم في مسار “الربيع العربي الليبي”
لكن عندما تأكد الطرف الفرنسي ومعه أطراف أوروبية بأن ساعة سقوط القذافي ونظامه قد اقتربت، سُحبت منه الحماية بل ساعد ساركوزي على سقوطه بتوجيه ضربات حاسمة لقوات النظام الليبي عام 2011 التي كانت في اتجاهها إلى بنغازي لقمع المظاهرات والاحتجاجات ضد استبداد القذافي، بل الأغرب من ذلك، بأسلحة كانت من المفترض أن تصل إلى ليبيا في إطار الصفقة العسكرية مع باريس، فكيف تحوّل الصديق بعد 3 سنوات إلى خصم يجب القضاء عليه، واضح أن استهداف قوات القذافي لم يكن لسواد أعين الثائرين، بل كانت وراءها مصالح واعتبارات شخصية، فقد بدأت تتكشف خيوط صفقة تمت بين القذافي، وساركوزي بخصوص تمويل الحملة الرئاسية لهذا الأخير عام 2007 مقابل تلميع صورة الدكتاتور الليبي، وأدرك ساركوزي أهمية الإسراع بالقضاء على القذافي قبل احتمال محاكمته وانكشاف صفقة تمويله للحملة الرئاسية لساركوزي لدى الرأي العام الفرنسي، إضافة إلى البعد الإستراتيجي وهو ضمان المصالح الاقتصادية الإستراتيجية لفرنسا ومن ورائها أوروبا وعلاقتها أساساً بثروة النفط في ليبيا هذا البلد الذي يُصنَّف ثالث منتج للنفط في أفريقيا، كما يمثّل بموقعه الإستراتيجي جسراً بين مصر والشرق الأوسط من ناحية، والمغرب العربي الكبير الذي يمتد من الحدود المصرية الليبية شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً.
استهداف قوات القذافي لم يكن “لسواد أعين” الثائرين
دعم الانقلاب على الشرعية
وكان هذا التدخل الذي تزامن مع انتفاضة الشعب الليبي على استبداد نظام القذافي يهدف أساساً إلى التحكم في مسار “الربيع العربي الليبي”، ومنع تكرار سيناريو في بلاد أخرى مجاورة لليبيا (تونس ومصر) شهدت وصول التيار الإسلامي إلى السلطة وهو التيار الذي أثبتت تجربة “الربيع العربي” أنه أكثر التيارات شعبية وتفويضاً شعبياً له للحكم.
وبالرغم من كل المحاولات للتحكم في هذا المسار بما يخدم مصالح أطراف داخلية وخارجية معادية لهذا المسار، ظهرت وجوه محسوبة على التيار الإسلامي في حكومة الوفاق الليبية برئاسة السرّاج التي حظيت بالشرعية الدولية، أمام هذا الأمر الواقع، هرعت الأطراف المناهضة لمسار الربيع العربي تشكلت أساساً في محور مصري فرنسي إماراتي وروسي لتحريك “الثورة المضادة” من أجل الإجهاض على التجربة الليبية الوليدة في مهدها، ووجدت هذه الأطراف في المشير حفتر -رجل القذافي سابقاً- الشخص المناسب في نظرها لتقويض هذا المسار وقلبه رأساً على عقب، قام حفتر بالاستحواذ على الشرق وإقامة برلمان وحكومة هناك، وجعل من الشرق وبنغازي قاعدة التحرك للزحف على طرابلس العاصمة التي حاصرها وقذف سكانها المدنيين وتسبب في جرائم وخسائر بشرية ومادية.
لم تعر أوروبا وفرنسا خصوصاً اهتماماً للأصوات الداعية لاحترام حكومة السراج ذات الشرعية الدولية، بل تم اكتشاف أسلحة ومخابرات لبعض البلدان الأوروبية تساند حفتر الذي يمدها مقابل ذلك بالطاقة النفطية بعد أن استحوذ على معظم آبار النفط، وتحولت ليبيا إلى مسرح للجرائم والقتل للأبرياء تحت غطاء محاربة حكومة “الإرهاب” كما جاء في خطاب حفتر، وتم اكتشاف مقابر جماعية لأشخاص عذبوا وقتلوا على يد مليشيات حفتر في المنطقة الغربية، وانقسم البلد إلى شرق وغرب وبرلمانَيْن وحكومَتيْن بل وإلى قبائل وعشائر متناحرة بعد أن أشعلت المليشيات والمرتزقة وخاصة فاغنر التابعة للروس وجانجويد من السودان نار الفتنة والحرب، واستغلت المنظمات الإرهابية مثل “داعش” وغيرها الفوضى في ليبيا لتكثف هجماتها على المدنيين وعلى حكومة الوفاق على عكس ما يدعي حفتر، كل ذلك وأوروبا تراقب بكثب وتترقب اليوم الذي تسقط فيها حكومة السراج وينجح بعد ذلك حفتر في تحقيق سيناريو مصر (انقلاب عسكري) في ليبيا ويتم بذلك القضاء على مسار تجربة أخرى من تجارب “الربيع العربي”، ولكن أوروبا كانت تشهد يوماً بعد يوم تطورات على الميدان تتجاوزها وتزيدها تهميشاً وتشعرها بفقد القدرة على التأثير المباشر على المشهد السياسي في ليبيا في ظل تعقيدات لم يحسب لها حساب.
تصاعد المخاطر
ففي ظل هذا الانسداد وتصاعد المخاطر، لجأت حكومة السراج إلى تركيا التي أصبحت قوة إقليمية يحسب لها وزنها، وطلبت من القيادة التركية التدخل لدعم الشرعية وصدّ “الثورة المضادة”، لم تتوان القيادة التركية عن تقديم الدعم لحكومة الوفاق رغم حساسية الوضع الليبي باعتبار وقوف روسيا -حليفة تركيا- إلى جانب حفتر المنقلب على الشرعية، وبغض النظر عن خلفيات تركيا ومصالحها الإقليمية في منطقة إستراتيجية مثل شمال أفريقيا وفي بلد من أهم بلدان المغرب العربي ومجاور لمصر ومفتوح على العمق الأفريقي، فإن الدعم التركي لحكومة الوفاق قلب موازين القوى وأجهض مشروع حفتر ومن يقف وراءَه والهادف لتقويض المسار الانتقالي الديمقراطي في ليبيا، بل إن الأمر أصبح ينذر بحرب بالوكالة بين روسيا وتركيا على الأرض الليبية عندما وصل القتال بين قوات حفتر وقوات حكومة الوفاق إلى نقطة فاصلة في مدينة سرت التي تقع بين بنغازي شرقاً وطرابلس غرباً، وتعتبر بوابة الهلال النفطي في البلاد، هنا شعرت القوى الخارجية بخطورة الوضع واحتمال تطوره إلى صراع دولي لا يمكن التكهن بعواقبه الخطيرة، أمام انسداد الوضع، تحركت الأمم المتحدة لفرض مسار حوار سياسي بين الأطراف المتنازعة من أجل التوصل إلى حل سياسي بدعم دولي، وتزامن هذا المسار الجديد مع وصول إدارة بايدن إلى السلطة.
بوابة للهجرة نحو أوروبا
لم يكن في حسبان أوروبا أن مبدأ “الفوضى الخلاّقة” -الذي انتهجته السياسة الأمريكية في العراق خاصة في عهد بوش الابن من أجل الاستفادة من الفوضى المصطنعة لحماية المصالح الأمريكية في المنطقة- غير قابل للتحقيق في الحالة الليبية، حيث بدأت مؤشرات انقلاب السحر على الساحر، وتحولت ليبيا إلى أكبر بوابة للهجرة غير النظامية إلى أوروبا، حيث استغل الكثير من المهاجرين من بلاد جنوب الصحراء الأفريقية أساساً حالة الفوضى في ليبيا للوصول إلى الشواطئ الليبية المطلة على البحر المتوسط ومنها إلى أوروبا، وتقدّر الإحصائيات نزوح أكثر من 200 ألف شخص.
لم يكن بوسع أوروبا سوى البحث عن حلول للحد من ظاهرة الهجرة غير النظامية المتفاقمة، علاوة على تعطيل الدعم التركي للحكومة الشرعية في ليبيا بكل الوسائل بحجة فرض حظر الأسلحة، ومن الحلول التي توصل إليها الاتحاد الأوروبي قيامه بداية من 31 مارس الماضي بتنظيم مهمة عسكرية على السواحل الليبية بالبحر المتوسط بميزانية تقدّر بـ 9.8 مليون يورو، وذلك بهدف “فرض حظر على توريد الأسلحة إلى ليبيا عبر المتوسط” كما دعت إلى ذلك الأمم المتحدة، أطلق على هذه العملية اسم “إيريني” (إشارة إلى اسم إلهة السلام “إيرين” في الأساطير اليونانية!)، وكان رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى ليبيا، خوسيه ساباديل صرّح أن عملية “إيريني” تركز على فرض حظر الأسلحة، ومنع تهريب النفط، وتوفير التدريب وتعطيل الاتجار بالبشر.
تحولت ليبيا إلى مسرح للجرائم والقتل للأبرياء تحت غطاء محاربة “الإرهاب”
إلا أن حكومة السراج نبّهت إلى عدم حيادية العملية، كما جاء في تصريح لوزير الدفاع بحكومة الوفاق الوطني الليبية صلاح الدين نمروش، يوم 17 نوفمبر 2020، موضحاً أن نطاق العملية مقتصر على الحدود البحرية، وأن الطرف الآخر (قوات الانقلابي حفتر) تستخدم الحدود البرية والمجال الجوي، لافتاً إلى استمرار حفتر في تلقي الدعم من عدة دول، بينها مصر والإمارات، واتضح أن عملية “إيريني” الأوروبية تستهدف أساساً الدعم التركي العسكري لحكومة الوفاق، وتبين ذلك من خلال عملية تفتيش سفينة شحن تركية، يوم 22 نوفمبر 2020، متجهة من تركيا إلى مصراتة، حيث قامت الفرقاطة الألمانية هامبورغ بمداهمة سفينة الشحن التركية وتفُتيشها بالقوة دون الحصول على إذن من السلطات التركية بما يخالف القوانين الدولية، ولم يعثر أثناء البحث سوى على مساعدات إنسانية وأغذية وسُمح للسفينة بمواصلة طريقها.
عودة أوروبا إلى ليبيا
واليوم، تعود أوروبا تدريجياً إلى الساحة الليبية، تشهد على ذلك تصريحات رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى ليبيا، خوسيه ساباديل خلال مسار الحوار السياسي بين الفرقاء الليبيين الذي طاف بلداناً عربية وأوروبية من بينها تونس والمغرب وألمانيا وسويسرا، حيث تقدم ساباديل، في تصريحات صحفية، بالتهاني للشعب الليبي على تقدم سير منتدى الحوار السياسي الذي انطلق في تونس قبل أشهر، واعتبر أن الاتفاق على إجراء الانتخابات، هو مسار واضح نحو تحقيق التغيير اللازم، وأضاف ساباديل: “لقد آن الأوان، أن يضع الجميع مصلحة البلد فوق مصالحهم، وأن يكونوا مستعدين لتقديم تنازلات لتحقيق السلام الذي يطلبه الليبيون ويستحقونه”، وقال ساباديل: “إن الاتحاد الأوروبي، يدعم كلياً عملية السّلام في ليبيا، بما في ذلك مجال الأمن.”
أما وقد نجح هذا المسار الطويل والشاق في تحقيق اتفاق الفرقاء على تعيين حكومة وطنية مؤقتة مهمتها الإعداد لانتخابات في ديسمبر المقبل، فإن العديد من الأطراف المناهضة لمسار “الربيع العربي” كانت تراهن على فشل الخطوة الموالية الحاسمة في المضي قدماً أو إحداث انتكاسة سياسية وأمنية، وهي المتمثلة في منح الثقة أو عدمها لهذه الحكومة، وكادت التجاذبات السياسية بين النواب أن تؤدي إلى أزمة، لكن صوت العقل والمصلحة العليا انتصر في الأخير وتم منح الثقة للحكومة، مع احتفاظ رئيس الحكومة الدبيبة بمنصب وزارة الدفاع تجنباً لإشكالات تتعلق بموقع حفتر في المشهد السياسي القادم في ليبيا ومستقبل طبيعة المصالحة التي تدعو إليها العديد من الأطراف التي تريد إدماج حفتر في التركيبة السياسية المقبلة، وهو أمر معقّد في ظل توازنات هشة.
انقلاب السحر على الساحر وتحولت ليبيا إلى أكبر بوابة للهجرة غير النظامية
في هذا السياق، يمكن إدراج كلمة التهنئة التي تقدم بها رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى ليبيا خوسيه ساباديل إلى الشعب الليبي بعد منح الثقة للحكومة الجديدة وفيها إشارة إلى المصالحة، فقد جاء في كلمته: “أتقدم بالتهاني إلى ليبيا في هذا اليوم الذي يعدّ بالفعل يوما تاريخيّاً، بوسع حكومة الوحدة الجديدة أن تعوّل على الدعم الكامل من طرف المجتمع الدولي، وخاصة الاتحاد الأوروبي، في سبيل تحقيق أهدافها المتمثلة في إرساء السلام والاستقرار وتحقيق الازدهار، ستكون عملية المصالحة وتحسين الخدمات الأساسية والإعداد للانتخابات المقررة في ديسمبر من أبرز التحديات التي ستواجه هذه الحكومة الليبية الجديدة”.