في الاقتصاد ما بعد الصناعي، احتلت الأنشطة المتعلقة بالمعرفة موقع القلب من جهود تكوين الثروة الوطنية والحفاظ على النمو الاقتصادي، فيما عرف باسم “الاقتصاد المعرفي”، “الاقتصاد القائم على المعرفة”، “الاقتصاد الكوني المعتمد على المعرفة”، “الاقتصاد الشبكي الجديد” أو اختصاراً “الاقتصاد الجديد”.
وقد عرفت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) “الاقتصاد القائم على المعرفة” بأنه: “الاقتصاد الذي يكون فيه إنتاج ونشر واستخدام المعرفة محركاً رئيساً للنمو وصناعة الثروة وتكوين فرص للعمل في جميع الصناعات”.
وفي هذا الصدد، أشار عديد من الكتَّاب والمؤلفين إلى تقنيات الاتصال والمعلومات وكذا العولمة باعتبارها المحرك الرئيس لهذا الاقتصاد.
في جميع أنحاء العالم، تقود المتاحف وغيرها من المرافق الثقافية عمليات التنمية الاقتصادية الإقليمية والحضرية الجديدة.
ولا يمكن للتنمية الإستراتيجية للمدن أن تحدث من دون دور مناسب للثقافة والمعرفة.
وتنشأ المدن وأقاليم المدن والفراغات الجديدة –أكثر من أي وقت مضى– كوحدات وثيقة الصلة بالتجمعات البشرية.
وتقوم هذه الفراغات بدور حاسم في تعزيز السياسات الجديدة لدعم التنافسية والرفاهية.
وقد تحولت هذه الفراغات من نطاقات سلبية لإدارة الموارد المادية إلى عوامل نشطة حقيقية.
بالإضافة إلى ذلك، فقد تطورت المعرفة والثقافة من كونها عوامل إنتاجية جامدة –معاً مع رأس المال والقوى العاملة– وميزة نسبية في الماضي، إلى كونها مكوناً حيوياً يدعم الميزة التنافسية للأمة والمنطقة أو المدينة.
وللأسف، اليوم تموت العديد من المدن في مختلف أنحاء العالم، ويعتبر الركود إحدى أهم المشكلات الرئيسة التي تواجهها هذه المدن، وقد وصلت بعض المدن إلى مستوى عدم القدرة على تجديد خدماتها، أو تنفيذ بناها التحتية، أو الاستثمار في رأس المال البشري فيها، وبالتالي، فإن هذه المدن تفقد جاذبيتها لدى المواطنين بشكل عام ولدى المجموعة الشابة المتعلمة على وجه التحديد.
ونتيجة لذلك، يغادر المواطنون المدينة التي ذهبوا فيها إلى المدرسة، ونشؤوا في ظلالها وشعروا فيها بأنها لهم بمنزلة البيت الكبير.
وهكذا، فقد نرى المساحة بين الذكاء (ما نعرفه) والجهل (ما لا نعرف أننا لا نعرفه) فرصة لاستكشاف مدينة المعرفة المستقبلية.
وتعتبر هذه المساحة فرصة لروح المبادرة في المجتمع، بما يضيف إلى عملية تطور مدينة المعرفة.
وهذه التساؤلات –التي يمكن اعتبارها علماً وفناً– يمكن أن تكون بُعداً مبدئياً لحفز واستثارة العقل.
لكن ما أهم التساؤلات الواجب طرحها لحفز عملية التفكير لما يكمن في مدن المعرفة؟ إليكم بعض الاقتراحات:
ما الذي يحكم اليوم؟ ما الذي نعرفه عن مدن المعرفة مقابل ما لا نعرفه عن هذه المدن؟ ما الخواص أو المميزات الأهم لمدينة المعرفة؟ ما الذي يوجه نشأة وارتقاء مدينة المعرفة، الذي يمكن تسميته بعوامل العرض أو الطلب؟ إذا كنت تهاجر إلى مدينة أخرى، ما الذي تبحث عنه في هذه المدينة؟ أما إذا كنت ستقيم، فما أكثر شيء تقدره في مدينتك؟ ما الذي يجعل مدينتك جاذبة للطبقة المبدعة من العاملين في مجال المعرفة؟ كيف نحول مرفأ البضائع التقليدي إلى مرفأ معرفة؟ ما نوع التجديدات الاجتماعية التي نراها اليوم في مدينة المعرفة؟ إذا طرحت مدينتك للبيع، هل كنت تشتريها؟ هل ظهر في المجتمع منطق للقيمة أو أنماط من الذكاء الخلاق، مما يستدعي وجود روح المبادرة لدى هذا المجتمع، وأخيراً، ما إمكانات الربح المستقبلية، أو الجذور التي تخلق ثمار مدينة المعرفة؟
إن من مهام الاقتصاد إيجاد وسيلة لدمج وسائل الإنتاج بأكثر الطرق كفاءة، ويقتضي هذا تحديداً لعوامل الإنتاج الضرورية لإيجاد نظام قادر على صنع القيمة، وكذا تحديد السياق الملائم لذلك، وكما يرى ليف، فإنه يمكننا اليوم أن نلاحظ في كثير من المنظمات أن التعبير عن المعرفة –على أنها عامل من عوامل الإنتاج– أصبح أكثر انتشاراً مع الوقت.
ويشير كاريللو إلى المعرفة كحدث تتمثل عناصره الأساسية في: “المفعول به” وهو المعرفة ذاتها (الأفكار، والصور، والعروض التقديمية)، و”الفاعل” للمعرفة (الوكيل الذي يؤدي الفعل)، و”السياق” المعرفي ذو الطبيعة المرجعية (إعطاء معنى للعلاقات الممكنة ذات الصلة بالحدث)، وتتضمن التنمية القائمة على المعرفة تحديداً للفئات المتعلقة بالقيمة، والوكلاء، والمستفيدين من النظام المعرفي.
______________________________________
(*) مستشار اقتصادي وأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
للتواصل: zrommany3@gmail.com.