أكرم الله آدم عليه السلام بالنبوة والرسالة الربانية، فبدأ يعبد الله كما علمه الله بتعليم رسالته الجديدة وبلغها لأبنائه، وبدأ يعلم أولاده من بعده شرع الله تعالى وعلى كيفية عبادة الله والإخلاص له وسعى بكل ما يستطيع أن يقيم شرع الله في الأرض وأن يحقق العدالة في خلق الله سبحانه وتعالى وعلى أرضه، وقد كان أميناً على رسالة الله صادقاً في تبليغها لذريته عليه السلام، وقد غرس الأخلاق الأساسية في بنيه كالصدق والإخلاص والأمانة والعدل.
حرص آدم عليه السلام على غرس عبادة الله في ذريته، وتحقيق العبودية لله قيمة كبرى تسمو بالإنسان إلى معالي الأمور وترفع مستواه على سائر المخلوقات، وتعتبر من القيم الكلية الكبرى التي من أهمها العدل والإحسان والحكمة، وتعتبر قيمة العبودية لله عز وجل من أرقى القيم الإسلامية التي دعا إليها آدم عليه السلام وموكب الأنبياء والمرسلين من بعده.
والأنبياء والمرسلون وعلى رأسهم آدم عليه السلام ينظرون إلى العبادة على أنها شاملة لكل نواحي الحياة دون خروج شيء منها عن شرع الله تعالى ودون بتر وتجزئة لمفهومها العام.
ولا بد من التأكيد على أن العبودية نوعان: عبودية عامة، وعبودية خاصة.
العبودية العامة: عبودية أهل السماوات والأرض كلهم لله برّهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم، فالناس كلهم عباد الله، بل الأشياء كلها كذلك، فهي عبودية اضطرارية شاملة لجميع المخلوقات، وهي التي يسميها ابن القيم رحمه الله عبودية القهر والملك، قال تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ (مريم:43)، فهذا يدخل فيه المؤمن والكافر.
ولا شك أن آدم عليه السلام النبي الكريم وصاحب المعرفة العظيمة والعلوم الغزيرة، قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، فقد حدّث أولاده عن عظمه الله الخالق العظيم وعن مخلوقاته المتنوعة العابدة لله طوعاً وكرهاً، ومكانة الإنسان من هذه المخلوقات وعلاقته بها وأهمية إفراد الله عز وجل بالعبادة له.
العبودية الخاصة: وهي التي قام بها آدم وأمنا حواء غاية القيام، وحرصوا على غرسها في ذريتهم من الآباء والأحفاد: عبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر، وهي المأمور بها في نحو:
قوله تعالى: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ (البقرة:21).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ (الحجر:42).
فالخلق كلهم عبيد ربوبيته سبحانه، وأهل طاعته وولايته هم عبيد إلاهيته، وهذه هي التي عليها المدار.
تعتبر العبودية لله أساس القيم كلها، فهي قيمة كلية شاملة مهيمنة على القيم الأخرى، بل وعلى الوجود الإنساني كله، وذلك لأنها تبدأ بالإيمان بالله رباً وإلهاً مشرعاً، وبرسله ابتداءً من آدم عليه السلام إلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جاءت تفصيليةً بصفتها التشريع المنزل من عند الله تعالى، لتحفظ للإنسان إنسانيته ولتحقق الغاية المنشودة من وجوده على وجه هذه الأرض على أكمل وجه، ثم تتمثل في الالتزام بهذا التشريع، وترجع أهمية هذه القيم العليا الكبرى إلى عدة أمور:
أ- أنها غاية الوجود الإنساني في هذا الكون ومن أجلها خلق الله الخلق قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، فغاية وجود الإنسان على وجه الأرض هي عبادة الله وحده لا شريك له وإفراده بجميع أنواع العبادات القلبية والبدنية، مع كمال المحبة والخضوع والتذلل وتفريغ القلب عما سوى المعبود سبحانه وتعالى.
ب- أنها الغريزة الفطرية الكبرى في الذات الإنسانية تغذيها هدايات السماء وترشدها دعوة الأنبياء والمرسلين.
جـ- أنها الغاية التي بعث الله تعالى رسله جميعاً بها، ابتداءً من آدم عليه السلام إلى خاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام كما قال نوح عليه السلام لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (الأعراف: 56).
وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم من الرسل عليهم السلام لقومهم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ (النحل:63).
د- ارتبط التاريخ البشري منذ بداية الحضارة الإنسانية الأولى بهذه القيمة العظيمة، وسعى آدم وزوجه لتحقيقها في ذريتهما وكانوا على معرفة عظيمة بالله عز وجل، وخشية جليلة له، ومحبة غامرة في قلوبهم للودود الرحيم، فحققوا في ذلك المجتمع الوليد توحيد الله عز وجل وإفراد العبادة له.
فكانوا حريصين على ما يحبه الله ويرضاه، ونشر ذلك في أولادهم وأحفادهم بما في ذلك من أقوال وأعمال ظاهرة وباطنة من صلاة وحج، وصدق الحديث، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحسان لخلق الله عز وجل، والدعاء والذكر وأمثال ذلك من العبادة، وإخلاص الدين لله وخشيته في السر والعلن والشكر لنعمائه والصبر على بلائه والرضا بقضائه والتوكل عليه، والرجاء برحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك من العبودية لله عز وجل، فقد حقق آدم عليه السلام مقام النبوة والرسالة وكانت حواء مصدقة له وانعكس ذلك على جذور الحضارة الإنسانية الأولى في الأسر الجديدة التي قامت على التوحيد وعبادة الله، وهذا هو الأصل في الحياة الإنسانية وبداية انطلاقها، فالإنسانية إذن بدأت بالتوحيد وإفراد العبادة لله ثم انتهت شيئاً فشيئاً إلى الشرك والتعدد، فكان أول شرك وقع في بني آدم في قوم نوح عليه السلام، وقد فصلت ذلك في كتابي “نوح عليه السلام والطوفان العظيم ميلاد الحضارة الإنسانية الثانية”.
ومهما يكن من شيء، فإنه حينما انحرفت الإنسانية في عقيدتها شاءت إرادة الله أن يرسل نوحاً عليه السلام مبشراً بالحق في مجال العقيدة، وبالخير في مجال الأخلاق وبالعدالة في مجال التشريع.
– إن آدم وحواء عليمها السلام حققا العبودية المطلوبة منهما من الله عز وجل بعنصريها الحب والذل لله في غايتهما، ويعني ذلك تلقائياً تحليهما بالفضائل وتخليهما عن الرذائل، وذلك لأن تحقيق العبودية لله تعالى له أثر كبير في تسامي العبد خلقياً، قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (العنكبوت: 45).
كما أن انحراف الإنسان خلقياً دليل على نقص في عبوديته وضعف في إيمانه وتعلق جزئي أو كلي نحو محبوبات أخرى سوى الله تعالى؛ مالاً أو جاهاً أو شهوة أو منصباً أو نحوها، فيرتكب في سبيل تحقيقها وإرضائها مالا يتوافق ويتناسب مع الفضائل الخلقية المنبثقة من العبودية بصفتها قيمه عليا.
– إن آدم وحواء تحرروا من وسواس إبليس وتغلبوا على كيده ومكره وحققوا كامل الحرية الإنسانية، التي تنسجم مع الفطرة وتقنع العقل وترضي الوجدان البشري: فكلما ازداد القلب حباً لله ازداد له عبودية وكلما ازداد عبودية ازداد له حباً وحرية مما سواه.
– إن العبودية لله تعالى تحرر الإنسان من العبودية لغيره فهي بذلك تحقق له منتهى الكرامة الإنسانية، فهي تزكي نفسه وتربطه بخالقه وترفعه بالتالي فوق عناصر الذل والهوان التي كان أسير شباكها وكلما بذل جهداً أكبر في تحقيق العبودية الخالصة تعالت نفسه وتسامت فازدادت كرامته وارتفعت تبعاً لذلك.
– تعد السعادة مطلباً عاماً لكل البشر، وهي في إطار قيمة العبودية ممكنة التحقيق إذا ما سعى إليها الإنسان وبحث عنها بكل جد ومثابرة، فالسعادة الحقيقية ليست مجرد تلذذ مادي وجسدي فحسب، وإنما السعادة التي يقابلها الشقاء منشؤها القلب، والقلب مرتبط بالله تعالى ومن ثم فسعادته إنما هي محبة لله تعالى، واتصاله به والعبودية له، وهي غاية كمال العبد وسعادته التي لا كمال له ولا سعادة له بدونها أصلاً، وكانت المحبة الصادقة إنما تتحقق بإيثار المحبوب على غيره من محبوبات النفوس واحتمال أعظم المشاق في طاعته ومرضاته، وشقاؤه وتعاسته في البعد عن الله تعالى والانقطاع عن جانبه، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ﴾ (طه: 124).
وآدم وحواء عليهما السلام كانوا من أسعد خلق الله عز وجل مع التعب والمعاناة والمشقة، فقد كان الله بهما رحيماً، وعلمهما طريق التوبة، والإنابة، والعبادة، قال تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة: 37)، والكلمات هي في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الأعراف: 23).
فقد عرفوا ربهما وأخلصوا له الحب والرجاء والخشية، وأصبح الله هو غاية مرادهما ونهاية مقصودهما، فحققوا حقيقة التوحيد والعبودية فكانت السعادة لهما من ثمرات ذلك وسار على هذا المنهج والطريق من أراد الله لهم الخير من ذريتهما ولم يقع في شباك إبليس اللعين.
________________________
1- بشير محمد، تفاحة آدم وشجرة الختام، دار العرّاب، دمشق، سوريا، حلبوني الجادة، ص 212.
2- مانع بن محمد بن علي المانع، القيم بين الإسلام والغرب، دار الفضيلة، الرياض، ط1، 1426ه-2005م، ص 31.
3- عبدالحليم محمود، قصص الأنبياء في رحاب الكون مع الأنبياء والرسل، دار الرشاد للنشر والتوزيع، ط 1، 2010، ص 64.
4- علي محمد الصلابي، قصة بدء الخلق وخلق آدم u، ص 1192- 1199.