أعلنت أغلب شركات التكنولوجيا في العالم، ومن جميع الأشكال والأحجام، الكبرى والمتوسطة وحتى الصغرى، ومن “فيسبوك” (Facebook) و”مايكروسوفت” (Microsoft) وصولاً إلى “تندر” (Tender) في الأسابيع الماضية عن خططها الخاصة لبناء “الميتافيرس” (Metaverse)، الذي يعتقد كثيرون أنه سيكون إنترنت المستقبل خلال السنوات العشر القادمة.
هذا رغم أنه لا يوجد أحد في العالم حتى الآن يبدو واثقاً تماماً مما سيكون عليه شكل الميتافيرس النهائي في قادم الأيام، وهناك أيضاً أسئلة مهمة عمن سيتحكم أخيراً في هذه البيئة الافتراضية، ومن سيضمن أن يكون الجميع فيها على الصفحة نفسها.
يصف ساي كريشنا، المؤسس المشارك لشركة سكابك الهندية للواقع المعزز، في تصريحات خاصة لموقع “إنديان إكسبرس” (IndianExpress) الميتافيرس بأنه “تطور ثوري للإنترنت حيث ستكون لدينا مساحات ثلاثية الأبعاد، وبيئات افتراضية غامرة واتصالات متطورة، فضلاً عن نقلة نوعية في التجارة والترفيه”.. فالميتافيرس في نظره ولدى كثيرين غيره هو الخطوة المنطقية التالية لما بعد مرحلة الهواتف الذكية، وشبكة الإنترنت التقليدية التي نعرفها الآن.
سؤال الخصوصية
وهذا يطرح أسئلة كثيرة عن الخصوصية، فمن المعروف أن شركات التكنولوجيا الكبرى الآن مثل فيسبوك ومايكروسوفت وأمازون وغيرها تجمع معلوماتنا الشخصية من وسائل التواصل الاجتماعي، ومن اتصالاتنا اليومية المباشرة في الإنترنت، وتستغلها لجمع أموال طائلة سواء كان عن طريق الإعلانات أو غيرها، علماً أننا نعيش خارج الإنترنت الحالي بمعنى أن الشاشات أمامنا، فكيف حين نعيش داخل الشبكة وداخل الشاشات؟ كيف حين نمارس كل حياتنا في الواقعين المعزز والافتراضي من خلال الآفاتار الخاص بكل واحد منا في الميتافيرس؟ هل ستبقى هناك أي خصوصية لنا؟
سنؤجل الإجابة عن هذا السؤال قليلاً، ولكن عندما قام مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك، بإعادة تسمية الشركة أخيراً باسم “ميتا” (Meta)، أعلن أيضاً ما يخطط للقيام به داخل الميتافيرس، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنه يريد امتلاك الميتافيرس، لأنه بكل بساطة لا يستطيع فعل ذلك.
وفي هذا السياق، يؤكد ساي: “لا أحد يمتلك الميتافيرس، إنه منصة مفتوحة”، وتتماشى خطط “ميتا” بشكل أكبر مع بناء نسختها الخاصة من “الميتا-يونيفيرس” (meta-universe)، وهو عالم رقمي يتم فيه دمج العالمين الحقيقي والافتراضي، فعلى سبيل المثال يمكنك مقابلة ابن عمك الذي يعيش في كاليفورنيا في مقهى في بيئة افتراضية في الوقت الفعلي عبر الآفاتار الخاص بكما.
يقول د. أنوباما مالك، المدير العام لشركة (Vizara Technologies) -شركة ناشئة متخصصة في تقنيات الواقعين الافتراضي والمعزز- في تصريحات لموقع “إنديان إكسبرس”: “على الرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعي الحالية رائعة، فإن شركة ميتا (Meta) لديها القدرة على امتلاك هذه البيانات، والتواصل في البيئة الثلاثية الأبعاد هو الخطوة التالية، نظراً لحقيقة أن لديك وسائل سهلة للغاية للحصول الآن على البيانات الثلاثية الأبعاد، وهو (زوكربيرغ) يعلم أن المساحات الثلاثية الأبعاد ستكون الشيء الكبير التالي”.
وشركة ميتا لديها المواهب والموارد لبناء الميتافيرس، وفي الواقع، فقد أعلن عملاق وسائل التواصل الاجتماعي عن توظيف 10 آلاف شخص في الاتحاد الأوروبي للقيام بهذه المهمة الكبيرة، كما ذكرت منصة الشركة أخيرا، ومن المفيد أن يمتلكوا بالفعل نظارات “أوكلوس ” (Oculus)، الشركة الرائدة في أجهزة الواقع الافتراضي التي تمتلكها شركة ميتا، التي ستكون حرفياً بوابة الميتافيرس.
وفي هذه البيئة الجديدة يمكن لمجموعات المستخدمين الذين يتجولون في مساحات ثلاثية الأبعاد اختيار القيام بكل ما يريدون القيام به، وهو مستقبل وسائل التواصل الاجتماعي، بل شبكة الإنترنت كلها.
“ميش” مايكروسوفت
وإذا أرادت فيسبوك إنشاء الميتافيرس الخاص بها، فإن مايكروسوفت تسعى لجعل منصتها “ميش” (mesh platform) رابطاً أساسياً يربط العديد من البيئات الافتراضية معاً، وقد أعلنت ذلك في مؤتمر “إيجنتي” (Ignite) أخيراً، وقالت الشركة العملاقة: إنها تخطط لإحضار “ميش” إلى منصة تعاون مشتركة تسمى “تيمز” (Teams)، وهي منصة تضم 250 مليون مستخدم في جميع أنحاء العالم.
وتصف الشركة “ميش فور تيمز” (Mesh for Teams) بأنها ميزة ستجمع بين إمكانات الواقع المختلط لـ”مايكروسوفت ميش” (Microsoft Mesh)، التي تتيح للأشخاص في أماكن واقعية مختلفة الانضمام إلى بيئات افتراضية تستخدم الهيلوغرام (التصوير المجسم) مع الأدوات الإنتاجية الخاصة بـ”تيمز”، حيث يمكن للأشخاص الموجودين في أماكن مختلفة الانضمام إلى الاجتماعات الافتراضية وإرسال الدردشات والعمل وتبادل الملفات وغيرها الكثير، وذلك كما ذكرت منصة “إيه آر إس تيكنيكا” (ARStechnica) أخيراً.
ويمكن قياس خطورة وجدّية مايكروسوفت في أن تكون جزءا من الميتافيرس من خلال حقيقة أن منصة “ميش” ستسمح للشركات المسجلة في مايكروسوفت ببناء الميتافيرس الخاص بكل منها بعد أن تزودهم بمجموعة من عناصر وأدوات التحكم اللازمة لهذه العملية، وكي نقرب الموضوع أكثر إلى القارئ فإن الأمر يشبه تماما بناء ونشر تطبيق خاص بالهواتف الذكية في متجر آبل.
وسواء أكان ذلك عبر فيسبوك أو مايكروسوفت، فإن السباق لبناء الميتافيرس سيكون مفيداً جداً للواقعين الافتراضي والمعزز، وسيقود إلى انتشارهما بشكل غير مسبوق، ويؤدي إلى تبنّي الأشخاص العاديين لهذه التقنيات في حياتهم اليومية في المستقبل القريب.
الميتافيرس موجود بالفعل الآن
والنقطة التي تغيب عن بال كثيرين أثناء الحديث عن الميتافيرس هو أنه موجود بالفعل حالياً، ويجمع بين العديد من التقنيات الناشئة مثل السينما الثلاثية الأبعاد، والعملات المشفرة، ومنصات الألعاب الإلكترونية، وألعاب الفيديو الثلاثية الأبعاد مثل “روليكس” (Roblox) و”فورتنايت” (Fortnite )، فضلاً عن صانعي نظارات الواقع الافتراضي مثل “أكولس” (Oculus) و”إتش تي سي فايف” (HTC Vive)… كل هذه التقنيات موجودة فعلا وتتطور وتتداخل مع بعضها بعضا في ميتافيرس أكبر.
ويوضح ساي الأمر قائلاً: “نظراً لأن الميتافيرس بيئة غامرة ثلاثية الأبعاد يتشاركها مجموعة مستخدمين، حيث يمكنك التفاعل مع الآخرين من خلال الآفاتار الخاص بك، فهناك حاجة إلى أجهزة متخصصة للقيام بذلك، فلا يمكنك ممارستها من خلال عالم ثنائي الأبعاد أو من خلال تطبيقات الهواتف الذكية.. البيئة الغامرة الثلاثية تعني تجربة تواصل أغنى بكثير، ولهذا فإنها ستنتشر بسرعة فائقة في المستقبل”.
هل هذا يعني أن الهواتف الذكية في طريقها إلى الزوال؟
في المستقبل القريب على الأقل ستبقى الهواتف الذكية، ولكن علينا أن نعرف أنها غير مصممة للمساحات الثلاثية الأبعاد، كما هو الحال في الميتافيرس، وهذا هو السبب في أن جميع شركات التكنولوجيا الكبرى تستثمر بكثافة في تقنيات الواقعين الافتراضي والمعزز، فالمستقبل لها بكل تأكيد.
ويقول الخبراء: إن السباق هو من أجل بناء تجارب ستجلب المعلومات إلى أمام وجهك، ولكن هذا يعني أيضاً التركيز على تصنيع وإنتاج مجموعة جديدة من الأجهزة التي تختلف كثيراً عن الهواتف الذكية العادية التي نعرفها، وفي الحقيقة: من سيحتاج إلى الهواتف الذكية في المستقبل حين نبدأ بالعيش والتواصل والاتصال داخل الميتافيرس؟
وقال ساي: “سنشهد في السنوات الخمس المقبلة سباق تسلح محموم بين شركات التكنولوجيا هدفه إنتاج أجهزة جديدة للوجه تختلف تماماً عن الهواتف الذكية، وسيتعايش الواقعان الافتراضي والمعزز معاً ليكمل كل منهما الآخر”، وأضاف “في الفترة الزمنية القريبة ستصبح الخطوط أكثر ضبابية بين ماهية الواقع الافتراضي والميتافيرس.. إنه مشابه جداً للتناظر الواقع حالياً بين الكمبيوتر المحمول والاتصال بالإنترنت”.
وعودة إلى سؤال الخصوصية الذي طرحناه في بداية هذا المقال، فإن البيئة الرقمية الغامرة التي سيخلقها الميتافيرس تبدو مثيرة ورائدة من نوعها، ولكن لها تحدياتها الخاصة أيضاً، وبالذات في مجال الخصوصية، علما أن الإعلانات ستكون مصدراً أساسياً للدخل فيها.
وفي بيئة غامرة مثل هذه لا تتوقع أن يبقى لك أي خصوصية من أي نوع؛ فبيانات الواقع الافتراضي هي بيانات بييومترية، وسيتم تسجيل كل حركة للبشر داخل هذه البيئة، وهو الأمر الذي يشبه “الحصاد العالمي” لجميع الخصائص الشخصية والسلوكية للبشر، وهو ما سيجعل الناس عرضة لكثير من الجرائم الإلكترونية، أكثر بكثير مما هو موجود حالياً.
هو عالم جديد ومثير قادم، وهو أيضاً عالم عار تماماً بلا –حتى- ظِل لورقة توت.
___________________________
(*) المصدر: “الجزيرة.نت”.