أثار الانقلاب العسكري الأخير في السودان، في 25 أكتوبر الماضي، العديد من القضايا والتساؤلات حول ملف قضية سد النهضة الإثيوبي؛ كَون السودان طرفًا مهمًا على طاولة المفاوضات، لكن الأحداث الأخيرة ألقت بظلالها على المشهد لتطرح سؤالًا كبيرًا: هل الانقلاب السوداني سيخدم مصر أم إثيوبيا في ملف سد النهضة؟
وبعد سيطرة المكون العسكري على السلطة في السودان، هل سيتغير مسار قضية السد؟ وبعد تعليق عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي، كيف سيتم استكمال المفاوضات التي كانت برعاية الاتحاد؟
في هذا التحقيق تحاول “المجتمع” استشراف مستقبل قضية سد النهضة في ظل الأوضاع الإقليمية المستجدة.
كيف سيتم استكمال المفاوضات التي كانت برعاية الاتحاد الأفريقي بعد تعليق عضوية السودان فيه؟
خطوة إلى الوراء!
أدت الأزمة السودانية الأخيرة إلى انشغال البلاد بالأحداث الداخلية المتصاعدة، وتسجيل خطوة إلى الوراء في الأحداث الخارجية الإقليمية؛ ما ساهم ذلك في تعقد أزمة “سد النهضة”، التي كانت تنتظر التوصل لاتفاق ملزم؛ ففي سبتمبر الماضي حث مجلس الأمن الدولي مصر وإثيوبيا والسودان على استئناف محادثات يقودها الاتحاد الأفريقي للتوصل إلى اتفاق بشأن تشغيل السد.
وكانت المفاوضات على وشك الاستئناف عقب اكتمال جولة وزير خارجية الكونغو، الذي تترأس بلاده الاتحاد الأفريقي حالياً، إلى كل من السودان وإثيوبيا ومصر في سبتمبر الماضي، لبحث استئناف مفاوضات سد النهضة المتوقفة منذ فترة.
لكن في 27 أكتوبر الماضي، وبعد الانقلاب العسكري السوداني، تم تعليق عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي حتى عودة السلطة المدنية، وقال المتحدث الرسمي باسم الخارجية الإثيوبية السفير دينا مفتي، خلال مؤتمر صحفي بأديس أبابا: إن وجود السودان في مفاوضات “سد النهضة” أمر مهم، لكن سيتم الالتزام بما يقرره الاتحاد بشأن استئناف المفاوضات ومشاركة السودان فيها.
تورشين: الأحداث الأخيرة تدعم المصلحة المصرية لأن مصر بحاجة للمكون العسكري السوداني لتقوية موقفها في القضية
في هذا الصدد، يؤكد الباحث السوداني في الشؤون الأفريقية د. محمد تورشين أن الانقلاب الأخير سيؤثر بشكل مباشر على التوجه السوداني نحو قضية “سد النهضة”؛ لأن السياسة الخارجية السودانية -وهي المعنية بشكل مباشر بالتفاوض حول “سد النهضة” والتوصل لاتفاق قانوني ملزم- منشغلة الآن بالأحداث الداخلية، كما أن الوزارات خالية تمامًا من قيادات الصف الأول من الوزراء والمسؤولين.
وقال تورشين: إن تغيير القيادة السياسية لوزارتي الري والخارجية سيؤثر على ملف السد، خاصة مع غياب وزير الموارد المائية البروفيسور ياسر عباس وما لديه من خبرة تراكمية في هذا الملف.
ويتوقع تورشين، في حواره مع “المجتمع”، أن يعمل النظام العسكري في السودان وفق الرؤية المصرية لملف “سد النهضة”؛ لأن النظام الحالي بحاجة إلى تأييد إقليمي ودولي، ومصر دولة ذات ثِقل إقليمي ودولي.
وأضاف أن الأحداث الأخيرة تدعم المصلحة المصرية؛ لأن مصر أيضًا بحاجة إلى المكون العسكري في السودان لتقوية موقفها في قضية سد النهضة، ولفرض رؤية موحدة مقابل الجانب الإثيوبي.
ويذهب تورشين إلى عدة سيناريوهات لاستئناف التفاوض بعد تعليق عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي، قائلًا: يمكن للسلطات الإثيوبية أن تمضي في مفاوضات ثنائية مع الجانب المصري، لكن هذه مسألة مرفوضة لأن لها أبعاداً مستقبلية سيئة على المشهد التفاوضي لملف السد.
ويأتي السيناريو الآخر -وهو الأكثر ترجيحًا من وجهة نظر تورشين- وهو رفض الاستمرار في التفاوض، وتأجيل ملف “سد النهضة” إلى حين استقرار الأوضاع في السودان وإثيوبيا، خاصة أن الداخل الإثيوبي يعاني من التصدعات والإشكاليات الخاصة بجبهة تحرير تيجراي، ولن تكون إثيوبيا مستعدة حاليًا للمضي قُدمًا في تنفيذ مشروع السد أو الدخول في مفاوضات ثنائية مع مصر.
الورقة الرابحة
لكن مراقبين آخرين يرون أن مرور الوقت دون التوصل لاتفاق ملزم بشأن “سد النهضة”، يخدم مصلحة إثيوبيا التي بدأت باتخاذ خطوات لتعلية السد استعدادًا للملء الثالث، ما يضع مصر والسودان في موقف صعب خاصة بعد نفاد كل الأوراق التي يمتلكها طرفا المصب، وإذا تمكنت أديس أبابا من إتمام الملء الثالث، فإن انهيار السد أو توجيه ضربة له سيؤدي إلى عواقب وخيمة.
إبراهيم: التفاوض حول قضية السد سيظل معلقًا إذا لم يتم معالجة ملف السودان من داخل الاتحاد الأفريقي
ووفقًا لهذا الرأي، فإن الورقة الرابحة تذهب لإثيوبيا، لكن الصحفي والكاتب الإثيوبي أنور إبراهيم يرى أن الأحداث الأخيرة في السودان لن تؤثر كثيرًا على مسار قضية “سد النهضة”؛ ولكن قد تعمل على تعطيل الملف بصورة مؤقتة، كما حدث من قبل أثناء التغيير السياسي وتحركات الشارع السوداني لخلع البشير، فتأخرت مفاوضات “سد النهضة” وتم إرجاؤها حتى تستقر الأوضاع في السودان، ويمكن أن يتغير مسار القضية في حالة حدوث تغيير في وجهات نظر القيادات التي ستقود المرحلة القادمة.
ونفى إبراهيم، في حديثه مع “المجتمع”، محاولة استغلال إثيوبيا للأحداث الداخلية في السودان، حتى تستعملها كورقة رابحة في ملف “سد النهضة”، خاصة أن الأحداث الآن مشتعلة في الداخل الإثيوبي، وهذا هو أكبر تحد للاتحاد الأفريقي والمنطقة ككل؛ لأن إثيوبيا والسودان تشهدان صعوبات عدة.
كما يعتقد أن تعليق عضوية السودان بالاتحاد الأفريقي سيتم معالجته قريبًا؛ لأن التفاوض حول قضية “سد النهضة” سيظل معلقًا إذا لم يتم معالجة ملف السودان من داخل الاتحاد الأفريقي.
بين مصر وإثيوبيا.. مَن المستفيد؟
طالما كان السودان حليفًا مهمًا وإستراتيجيًا لمصر في ملف “سد النهضة”، وحاولت القاهرة كثيراً كسب الخرطوم في صفها لمواجهة التعنت الإثيوبي واتخاذ مواقف مشتركة للتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم، والسؤال الآن: هل يؤدي الانقلاب العسكري في السودان إلى تقارب مصري سوداني أم إثيوبي سوداني؟
يرى الخبراء أن المكون العسكري في السودان كان على وفاق منذ البداية مع تحركات القاهرة في أكثر من ملف، وعلى رأسها أزمة “سد النهضة”، وذلك خلافًا لحكومة حمدوك التي كان لها اتجاهات نحو أفريقيا وإثيوبيا.
شافعي: المكون العسكري السوداني أكثر قربًا لوجهة النظر المصرية عكس المكون المدني الذي كان أقرب للجانب الإثيوبي
وفي هذا السياق، صرح خبير الشؤون الأفريقية د. بدر شافعي، في حديثة مع “المجتمع”، أن مصر هي المستفيد من الانقلاب الأخير في السودان، لأن المكون العسكري السوداني المسيطر حاليًا هو أكثر قربًا من مصر، ومن وجهه النظر المصرية في ملف “سد النهضة”، وهو عكس المكون المدني الذي كان أقرب للجانب الإثيوبي الذي يرى أن القضايا الخلافية يمكن حلها على طاولة المفاوضات.
وأكد أن إثيوبيا أيضًا مستفيدة في هذا التوقيت، خاصة في ملف الخلاف الحدودي بينها وبين السودان، ودخول الجيش السوداني في منطقة الفشقة؛ فأحداث السودان ستجعل مهمة الجيش الأساسية هي تأمين البلد داخليًا، وأضاف أن إثيوبيا تمر هي الأخرى بأحداث داخلية عصيبة، وانشغال السودان عنها وعن المناوشات الحدودية سيساعد أبي أحمد للتركيز على الداخل.
كما أن الوقت سيكون في صالح إثيوبيا إذا تم تجميد عضوية السودان بالاتحاد الأفريقي وتعليق المفاوضات؛ لأن إثيوبيا تتحرك بمبدأ فرض سياسة الأمر الواقع واتخاذ إجراءات على الأرض، بحسب شافعي.
ويرى خبير الشئون الأفريقية أن الانقلاب الأخير في السودان سيؤدي إلى تحسين العلاقات المصرية السودانية وليس الإثيوبية السودانية، فهناك توترات بين النظام العسكري في السودان ونظام أبي أحمد في إثيوبيا، والخلافات بينهما بدأت تطفو على السطح مرة أخرى، وسوف تستفيد مصر من هذا الخلاف.
وبالتالي يُرجِح شافعي أن ما يحدث في السودان سيساهم في تعزيز العلاقات المصرية السودانية، إلا إذا نجح المكون المدني في فرض سيطرته في السودان وعاد بقوة وتأييد دولي، فربما يميل إلى سياسة متوازنة تجاه كل من مصر وإثيوبيا، أو ربما يميل أكثر لإثيوبيا على حساب مصر، على اعتبار أن مصر كانت داعمة للمكون العسكري.
وختامًا، فإن انقلاب السودان يُعَد تهديدًا جديدًا للمنطقة، ويجعل القضايا المصيرية محل تساؤل، وأبرزها ملف “سد النهضة”، فهل نشهد مسارًا مختلفًا لقضية السد؟