بعد أزيد من 5 قرون على تأسيس أول بنك تجاري بمدينة البندقية، تجد البنوك التقليدية نفسها أمام منافسة كبيرة من البنوك الإسلامية التي ظهرت وانتشرت خلال النصف الثاني من القرن الـ20 فقط، والتي تستند أساسا إلى مبدأ التخلي عن المعاملات المالية الربوية.
فما مميزات تجربة المالية الإسلامية ومسار تطورها وآفاق مساهمتها في العملية التنموية؟
اختلاف جوهري مع البنوك التقليدية
جاء تعريف البنوك الإسلامية في الاتفاقية الخاصة بإنشاء الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية كما يلي: “يقصد بالبنوك الإسلامية في هذا النظام، تلك البنوك أو المؤسسات التي ينص قانون إنشائها ونظامها الأساسي صراحة على الالتزام بمبادئ الشريعة الإسلامية، وعلى عدم التعامل بالفائدة أخذا وعطاء”؛ فهي مؤسسات مالية نقدية ذات أهداف اقتصادية واجتماعية وأخلاقية، تسعى إلى تعبئة الموارد وتوظيفها في مشاريع تتوافق ومبادئ الشريعة الإسلامية، ملتزمة في ذلك بعدم التعامل بالربا أخذا أو عطاءً، ومحققة التنمية الاقتصادية والرفاهية للمجتمع الإسلامي.
وبناء على ذلك، يمكن القول إن البنوك الإسلامية لا يتوقف تعريفها -فقط- على كونها لا تتعامل بالفائدة، وإنما يتوجب عليها أن تتبنى في جميع معاملاتها الاستثمارية والتمويلية الأسس والضوابط والمقاصد الشرعية الإسلامية، بهدف تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة العادلة والتكافل الاجتماعي الواسع، في إطار ترسيخ مبادئ الدين الحنيف ونشر الوعي الإسلامي.
وتنقسم البنوك الإسلامية حسب وظائفها إلى:
– بنوك التنمية الدولية المملوكة لعدة دول، وهي تهدف إلى تحقيق التنمية في تلك الدول عن طريق المشاركة في المشاريع التنموية وتمويل البرامج الإنتاجية في القطاعين العام والخاص، وكذلك عبر إنشاء وإدارة صناديق دعم وإعانة المجتمعات الإسلامية.
– بنوك اجتماعية، تهدف إلى تدعيم أواصر التعاون والتضامن الاجتماعي بين الأفراد عن طريق منح القروض وتقديم المساعدات والإعانات، إضافة إلى جمع الزكاة وتوزيعها.
– بنوك تمويلية استثمارية، وهي مؤسسات مالية تقوم بمختلف الأعمال المصرفية والتجارية والمالية والاستثمارية المعروفة.
وتختلف “البنوك الإسلامية” عن “البنوك التقليدية” في أمور جوهرية، تتمحور أساسا حول:
المبادئ
فالبنوك الإسلامية تعتمد على مبادئ وأحكام النظام الإسلامي، لذا فكل ما هو محرم في النظام التشريعي الإسلامي سيحرم التعامل به في البنوك الإسلامية، فمثلا لن تمنح تمويلاً لمصنع خمور باعتبارها محرمة في الإسلام. أما في البنوك التقليدية فليس هناك ما يحجر منح التمويل لأي سلعة كانت باستثناء السلع الممنوعة قانونا مثل المخدرات.
مفهوم المال
يعتبر المال في المنظور الإسلامي مجرد وسيط للتبادل ومخزنا للقيمة فقط، يستخدم للحصول على السلع والخدمات والأصول وتقييمها حسب ضوابط الشريعة الإسلامية ومقاصدها. في حين أن النظام الاقتصادي الرأسمالي يعتبر المال، بالإضافة إلى كونه وسيطا للتبادل ومخزنا للقيمة، سلعة متداولة، وبالتالي يسمح للبنك التقليدي بأن يؤجر النقود بأعلى من قيمتها عندما يمنح القروض ويستفيد من الفرق ما بين القيمة الاسمية والقيمة المستردة من المقترض، وكذلك بإمكانه أن يستأجر النقود ويدفع زيادة مقابل ذلك عندما يقوم المتعاملون بإيداع النقود لديه.
العلاقة مع البنك
فعند إيداع الأموال لدى البنك التقليدي تنشأ علاقة مديونية ما بين البنك التقليدي والمتعامل، وفي هذه الحالة سيكون البنك مدينا للمتعامل بأصل الوديعة، بالإضافة إلى الفائدة التي تعد عائدا ثابتا على رأس المال، وسيكون البنك ضامنا للوديعة بكل الأحوال. لكن باستثناء “القرض الحسن” المقدم كقرض دون مقابل أو زيادة على المدين، لا توجد علاقة مديونية في البنوك الإسلامية التي تستقبل الأموال من المودعين على أساس عقد المضاربة، وهو عقد يكون المال فيه مقدما من جانب، والعمل مقدما من جانب آخر، ويقوم البنك باستثمار أموال المودعين دون أن تكون مضمونة من قبل البنك إلا في حال التقصير أو مخالفة شروط العقد.
صيغ استثمار الأموال
تستقبل البنوك التقليدية الأموال بوصفها قرضا مضمونا بفائدة، وتقرض الأموال للمتعاملين بوصفها قرضا بفائدة. أما البنوك الإسلامية فإنها تستقبل الأموال بصيغة المضاربة، إذ يكون المتعاملون أصحاب رأس مال، ويكون البنك وكيل استثمار، لأن الشريعة الإسلامية تحرم مبادلة النقد بالنقد مع وجود زيادة مشروطة على رأس المال.
تحمل المخاطرة
ففي البنوك التقليدية، يتحمل الطرف الذي اقترض المال بهدف الاستثمار كل المخاطر، ويلتزم بِرد مبلغ القرض للبنك مع الفوائد المترتبة عليه حتى لو خسر في المشروع، في حين أن البنوك الإسلامية تعمل على توسيع دائرة المخاطر في الاستثمار، سواء كانت مانحة للتمويل أو مستقبلة له، فهي عند منحها التمويل تتحمل جزءا من المخاطر بحسب العقد الذي منح التمويل بناءً عليه، ويشارك المستثمر في نتائج الاستثمار ما دام لم يكن من طرفه تقصير أو مخالفة للشروط. والأمر ذاته إذا كان البنك الإسلامي هو المستثمر، فإن المودع بدوره سيتحمل جزءا من مخاطر الاستثمار.
العائد وتوزيع الأرباح
تحدد الأرباح في البنوك التقليدية كنسبة محددة ومعلومة من رأس المال منذ اللحظة الأولى من إيداع المال لدى البنك، مثلا، لو أن شخصا أودع مبلغ 100 ألف درهم لدى البنك، وكانت نسبة الفائدة لديه 5%، فإنه سيحصل على 100 ألف درهم بالإضافة إلى عائد ثابت مقداره 5 آلاف درهم. أما في البنك الإسلامي فإن العائد يتحدد كنسبة شائعة من الربح المتحقق من النشاط الاستثماري؛ فمثلا لو أن الشخص نفسه في المثال السابق قرر أن يودع 100 ألف درهم في البنك الإسلامي؛ فسيكون له عائد بنسبة معينة من الربح المتوقع في نهاية السنة المالية، لكنه غير مؤكد وجود “عائد مضمون” لأن معرفة الربح مسبقا على وجه اليقين غير ممكنة.
أساليب وصيغ للاستثمار من دون ربا
جعل الإسلام مصدر الكسب الأساسي هو العمل، ولم يسمح بأن يكون مرور الزمن وحده مبررا للكسب؛ لأن الكسب بهذه الوسيلة يزيد من حجم النقود دون الزيادة في حجم الإنتاج، فيؤدي بالتالي إلى التضخم. ومن هنا جاء تحريم الإسلام للربا بأي شكل من الأشكال. فإذا كانت البنوك التقليدية لا تملك أساسا إلا وسيلة واحدة للعمل ألا وهي القرض بفائدة وإن تعددت أشكاله، فبالمقابل نجد البنوك الإسلامية تسعى إلى توفير صيغ متعددة للاستثمار، اعتمادا على الاجتهاد الفقهي، كالتالي:
– المضاربة، وهي نوع من أنواع الشراكة، يكون فيه رأس المال من شخص والعمل من شخص آخر، وهي إما مضاربة مقيدة بزمان أو مكان أو نوع من السلع أو تجارة أو بائع أو مشتر أو بأي شروط يراها صاحب المال لتقييد المتعامل معه (المضارب)، وإما مضاربة مطلقة وغير مقيدة.
– المشاركة، وهي صيغة يكون فيها البنك ليس مجرد ممول ولكن مشاركا للمتعامل معه، ويتحمل فيها الطرفان -البنك والمتعامل معا- مسؤولية المخاطر التي قد تتعرض لها العمليات التي يقومان بها ما دام كان ذلك من دون تقصير من جانبهما. وتختلف المشاركة عن المضاربة في كون صاحب الجهد يملك إلى جانب جهده جزءا من المال، ولكنه غير كاف للقيام بنشاطه، فيضطر إلى اللجوء إلى طرف آخر ليقدم له ما يحتاجه من مال، ويتقاسم الطرفان الربح والخسارة بصيغة يتم الاتفاق عليها مسبقا، فالمشاركة تقتضي وجود جهة تملك المال وجهة تملك المال والجهد معا. وبذلك لن يكون البنك مجرد دائن لأصحاب النشاط الإنتاجي، بل شريكا لهم في هذا النشاط، يبحث معهم عن أفضل مجالات الاستثمار ويرشدهم إلى أفضل الطرق.
– المشاركة المتناقصة، وهي تختلف عن المشاركة الدائمة في عنصر واحد وهو الاستمرارية، إذ يعطي البنك الحق للشريك ليحل محله في ملكية المشروع، ويوافق على التنازل عن حصته في المشاركة دفعة واحدة أو على دفعات حسبما ما تقتضي الشروط المتفق عليها.
– المرابحة، وهي إحدى صور “بيع الأمانة” المعروفة في الفقه الإسلامي، والتي تختلف عن بيوع المساومة في أنه في النوع الأول -أي بيوع الأمانة- يتم الاتفاق بين البائع والمشتري على ثمن السلعة أخذا في الاعتبار ثمنها الأصلي الذي اشتراها به البائع، بخلاف بيوع المساومة التي يتم فيها الاتفاق بين البائع والمشتري على الثمن بغض النظر عن الثمن الأصلي للسلعة، وتتم عملية المرابحة في حالة زيادة ربح السلعة عن الثمن الأصلي للسلعة التي تم شراؤها به، أو بمعنى آخر يتكلف البنك بشراء ما يحتاجه المتعامل من أجهزة أو سلع بثمن معلوم وبيعه له بالتقسيط مقابل ربح معين متفق عليه مسبقا ببن البنك والمتعامل.
– البيع إلى أجل معلوم، ويعني أن يسلّم البنك البضاعة المتفق عليها إلى العميل عند إبرام التعاقد مقابل تأجيل سداد الثمن إلى وقت محدد على شكل دفعات أو أقساط، فيجوز البيع بثمن حال كما يجوز بثمن مؤجل، وكما يجوز أن يكون البعض معجلا والبعض الآخر متى كان متفقا عليه. وإذا كان الثمن مؤجلا تجوز الزيادة فيه من أجل التأجيل، لأن الأجل حصة من الثمن، وهذا يعني أن البيع بالتقسيط مؤداه أن يكون السعر أعلى من السعر الحالي.
– السَّلَم (بفتح اللام)، ويعني بيع شيء غير موجود بالذات بثمن المقبوض في الحال على أن يوجد الشيء ويسلم للمشتري في أجل معلوم. فبينما يكون بيع الأجل هو تقديم تسليم المبيع وتأخير الثمن، فإن بيع السلم هو على عكس ذلك، أي تقديم الثمن من قبل المشتري وتأخير تسليم المبيع. وبينما يكون تأخير الثمن في البيع بأجل مقابل زيادة في الثمن، يكون تقديمه في حالة السلم مقابل تخفيف في الثمن.
– الاستصناع، ويعني لغة أن يطلب شخص من آخر صناعة شيء له. فيمكن للبنك أن يكون مستصنعا، أي طالبا لمنتجات صناعية ذات مواصفات خاصة، فتصبح هذه المصنعات ملكا للبنك، يتصرف فيها بالصيغ المتاحة له من بيع أو تأجير أو مشاركة.. إلخ. كما يمكن أن يكون البنك في هذه الصيغة وكيلا لجهة أخرى من خلال عمولة معينة، أو يكون ممثلا للشخص المصنع -الصانع أو العامل- في عقد الاستصناع. وفي كل الحالات يموّل البنك من ماله الخاص، أو من أموال المودعين الاستثمارية.
– الإجارة، وهي تمليك منفعة معلومة بأجر وبمدة معلومين. وهي إما عقد إجارة عادية، وإما عقد إجارة واقتناء مقرونا بالبيع في نهاية العقد. وهذا الأخير يختلف عن “التمويل التأجيري” في البنوك التقليدية بكون الأقساط المدفوعة لا تقبل الزيادة نظير الأجل، بل هي ثابتة لا تتغير إذا حصل تأخير في السداد، كما أنها لا تحسب على أساس حصة لواجب الكراء وحصة للفائدة، فهي بذلك أقساط إجارة مجردة.
– المزارعة، ومعناها دفع الأرض إلى من يزرعها أو يعمل عليها والزرع بينهما، وهي نوع من التعاون بين العامل القادر على الزراعة وصاحب الأرض العاجز عن الزراعة.
—–
* المصدر: الجزيرة.نت.