إذا زرت الكويت وأردت أن تتعرف على الشعب الكويتي وعلى صفاته ونبل معدنه، إذا أردت أن تعتز بمعنى أن تجري دماء العروبة النابضة في عروقك، إذا أردت أن ترى وشائج الروابط الدينية بين أبناء الأمة، إذا أردت أن تعرف معنى الأخوة الإنسانية، فما عليك إذا ما زرت الكويت إلا أن تقصد ديوانية أبو غازي أو الكابتن و”تنيخ مطاياك في فنائها”.
أبو غازي أو الكابتن تلك كنية تطلق على فيصل الهاجري الكابتن الطيار ذلك الرجل الكويتي الذي يفتح ديوانيته لكل من يحب أن يزوره، منذ ما يقارب خمس عشرة سنة وأنا أتردد على ديوانية أبو غازي، كأنني أتردد على بيتي أو بيت والدي، ديوانية تعقد في كل أسبوع، وفي كل جمعة لا يكون فيها أبو غازي خارج البلاد بعد صلاة الظهر مباشرة كطقس من طقوس يوم الجمعة نحمل أنفسنا من المسجد بعد الصلاة ونتوجه إلى الديوانية، هناك نجتمع من كل الجنسيات والأجناس والأديان.
الديوانية وروادها وأهلها كما هم أطايب التمر، فلا تجد من بين روادها من لا تحبه وتألفه وتستمتع بمجالسته، الكل يخلع ألقابه وطبقته الاجتماعية على أعتاب الديوانية ويدخل مجرداً من كل بهرج الدنيا وزينتها إلا من المحبة والتواضع وطيب الخلق، فلا تفاخر بجنس أو جنسية أو مال أو عرق أو طبقة اجتماعية أو شهادة علمية رغم علو شأن الجميع في ذلك، هكذا أطلق عليها الأستاذ الجامعي الليبي د. محمد البيزنطي أبو الصدّيق “ديوانية النبلاء”، نجتمع فيها من كل الجنسيات العربية (كويتي، يمني، أردني، فلسطيني، مغربي، ليبي، جزائري، سوري، سعودي، بحريني، مصري، لبناني.. إلخ)، ومن الجنسيات غير العربية (تركي، بريطاني، فرنسي، كازخستاني، طاجيكستاني، نيجيري.. إلخ) من جميع الجنسيات والأعراق والأديان والقوميات والألوان، الكل من غير العرب يحاول أن يجتهد التحدث بالعربية، أصبحنا نعرف بعضنا بعضاً كأسرة واحدة تجمعنا الأخوة والمحبة في الإسلام والعروبة والإنسانية.
بعد تناول الطعام، وعادة ما تكون المائدة زاخرة بتنوع من كل المطابخ العربية والأجنبية، المائدة تزخر بالكرم وطيب النفس، يطوف صاحب الديوانية على الضيوف أو قل أهل الديوانية يقدم لهم الطعام، خدمة الطعام وكل فقرات الضيافة ذاتية “البوفيه مفتوح” تأكل ما تشاء وتشرب ما تشاء بدون تكلف أو خجل، فأنت صاحب البيت، وما أن تنهي فقرة الطعام إلا وتحين فقرة العلم والمعرفة، في كل جمعة يحدثنا أحد الحضور عن بلده تاريخها وحضارتها وكل ما تشتهر به عن الجغرافيا وتنوع الديمغرافيا فيها ومناخها منتجاتها.. إلخ، نعيش تلك البلدان وكأننا نتجول فيها، نثري فيها معرفتنا، بعدها يدور حديث وتساؤلات، نتعرف أكثر على تلك البلدان، وتتفتح قريحة كل من زار تلك البلدان ليحدثنا عنها وعن أهلها.
هذه الديوانية تمثل أجمل رسالة اجتماعية يتم كتابتها بقلم المحبة والود من بعض خيرة أبناء الشعب الكويتي، مثل هذه الديوانيات واللقاءات تمثل قوة ناعمة كبيرة للكويت وأهل الكويت، يعرف الناس أكثر عن الكويت وأهلها وناسها، يعود رواد الديوانية إلى بلادهم وفي مخيلتهم هذه الديوانية التي وجدوا فيها دفء الأخوة والمحبة والتواضع وخفض الجناح لهم، يشعرون فيها أنهم بين أهلهم وناسهم ومحبيهم، يا لها من رسالة مكتوبة بمداد المحبة الذي يليق بهذا البلد الكريم المعطاء وأهله.
في العيد، يحن المغترب إلى أهله وناسه وعشيرته، لكن من يزور ديوانية أبو غازي يخفف عنه ألم الغربة في تلك المناسبات، التقينا في يوم عرفة بالديوانية بين العصر والمغرب، تبادلنا أطراف الحديث، عشنا أجواء عرفة والحديث عن عظمة هذا اليوم، بعدها غشانا د. أبو علاء اليمني بدعاء رقراق قبل الأذان، تناولنا إفطارنا، تبادلنا أطرف الحديث ثم التهاني بحلول العيد، وودعنا بعضنا بعضاً وقد كسرت في نفوسنا قسوة الغربة وألم البعد، في صبيحة ثاني أيام العيد كنا التقينا على مائدة إفطار صباحي عامرة بكل الأطباق متنوعة بتنوع رواد الديوانية، فصاحب الديوانية يحاول أن يلبي أذواق الجميع، ثم أتحفنا هارون النيجيري العجمي صاحب اللسان العربي الفصيح بقصائد جميلة، أما قصائد الغزل تمنع كثيراً قبل أن يلقي بعض الأبيات على خجل، قهقهات تصدح في جنبات الديوانية لا فرق بين عربي وعجمي ولا أبيض ولا أسود، فأخوة العروبة والإنسانية والدين هي الروابط والوشائج التي تربط الجميع ولا ينفك عراها.
ديوانية أبو غازي أو ديوانية الكابتن تظهر معادن الناس النفيسة على حقيقتها وخصوصاً من أهل الكويت، حيث المحبة ولين الجانب والتواضع وخفض الجناح، تظهر فضل هذه الدولة الكبيرة بأهلها وناسها، فمهما طفا على الماء الرقراق بعض من الزهم لكنه يبقى صافياً رقراقاً لا تعكره تلك الطبقة الرقيقة التي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى، أن تحتك بشعب الكويت عن قرب ستعرف معنى مشاعر العروبة في عروقهم، ومن زار ديوانية الكابتن أبو غازي يعرف معنى أن تكون عربياً أو مسلماً أو إنساناً لك أخوة في الإنسانية أو الدين أو العروبة لغتهم المحبة والود والاحترام.
كم نحتاج كشعوب عربية أن نعرف بعضنا بعضاً بشكل أكبر، أن نزيل الحواجز والانطباعات المرسومة في مخيلتنا عن بعضنا بعضاً، كم نحن شعوب لطيفة تنطوي سرائرنا على كل خير حينما نعرف بعضنا بعضاً عن قرب!
حفظ الله الكويت الشقيقة وشعبها وأهلها وناسها، بلاد عامرة بالخير والمحبة والسلام والعطاء، وأدام ديوانية الكابتن عامرة بأهلها وناسها لتكون سراجاً منيراً للأخوة ورسالة محبة وسلام وتواضع لا يجف مدادها تظهر أجمل ما في هذا البلد الكبير المعطاء.