لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت مصدراً مهماً للمعلومات، كما أنها ألغت المسافات الجغرافية والزمانية ولمت شمل عائلات يتوزع أفرادها في مناطق مختلفة حول العالم، بالإضافة إلى أنها سهلت مزاولة الكثير من الأعمال ووفرت العديد من الخدمات التي يحتاجها الأفراد.
ولكن، هل هذه كل أسباب سعادة شبابنا في حياتهم الآن بالمقارنة مع مرحلة التواصل التقليدي؟
لا نبالغ أبداً إذا قلنا: إن جزءاً أساسياً من سعادة شبابنا في ظل التواصل العنكبوتي، يكمن في العلاقات الافتراضية التي صنعوها عبر حاضنات هذه التواصل، مثل: «فيسبوك» و«سكايب» و«واتساب» وغيرهما، ومهما حاول البعض التقليل من أهمية هذه العلاقات أو تسطيح حضورها في حياتنا، فإن ذلك لا ينفي حقيقة أنها باتت بالنسبة للكثيرين أكثر واقعية من حياتهم الحقيقية التي عاشوها لسنوات وسنوات قبل ولادة التواصل الاجتماعي.
ومع تعاظم دور مواقع التواصل ووصولها لكل بيت، بل كل يد بدءًا من مرحلة الـ«كيجي» وبلا سقف زمني أو عمري، فإن هناك مسؤولية كبيرة على الجميع بداية من الأب والأم مرورًا بالمحاضن التعليمية والمجتمع وصولًا للدولة وأجهزة الإعلام، لكننا في هذا المقال سنتحدث عن المحضن التربوي الأول والأقوى تأثيرًا وهو:
البيت
حيث يعتبر البيت سفينة، قبطانها الأب والأم، ودورهما أخطر ما يكون في تصحيح مسارات البيت إذا ظهر اعوجاج، أو استقامته إن مال قليلاً، أو تقويته دوماً حتى لا يميل يميناً أو يساراً، وكلها أدوار تربوية حتمية الحدوث ونتائجها طيبة وسعيها مشكور.
بداية، فإن أول دور على الوالدين مع اكتشافهما أن ابنهما أو ابنتهما تحب زميلاً/ة ، ويتواصلان عبر الإنترنت، سواء عرفا بالصدفة أو بتصريح من الابن أو مصارحة مع الابنة، فإن دورهما يكمن في عدة خطوات عملية، وهي:
خطوة وقائية؛ والوقاية دوماً تكون في المراحل الأولية من عمر الإنسان، فغرس القيم والتأسيس الجيد عليها والتعريف بما يجب على الفرد وما هو منهي عنه في جميع مراحله، من عوامل الوقاية والراحة النفسية للولد وللوالدين، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
الخطوة الثانية وهي الدواء؛ وهي حتمية الحدوث، وعمادها الحوار والإفهام وتوضيح المقصد من ضوابط العلاقة، وأهمية ذلك على المجتمع وصيانته، لكن أهم نقطة في هذه الخطوة هي البراعة في توصيل المعلومة بشكل بسيط بعيدًا التنظير، فالأجيال اليوم لا تحتاج إلى تنظير بقدر ما تحتاج إلى ما قلَّ ودلَّ.
والأب الواعي هو من يكتشف الداء ويصف الدواء بإخلاصه لربه وفهمه لمجريات الحالة، وتعلمه وإدراكه للمراحل السنية والعمرية المختلفة التي يمر بها أبناؤه، لكن هذا ليس كل شيء، فهناك خطوات أو ما نسميها مقومات ساندة للخطوتين، وهي:
الدعم: والمعنى هنا يتعلق بالدعم الشامل، الدعم الأبوي الحقيقي في الإحاطة العاطفية وتفقد أحواله التي يقيناً سقطت في زحمة الحياة وطاحونة السعي، ولعل الأمر فرصة للعودة والتقصير ليس بجريمة، فكلنا بشر نصيب ونخطئ، لكن أن تصل متأخراً خير من ألا تصل، بل أن تجلس وتدعم وتفضفض وتحتضن وتصاحب ابنك أو ابنتك خير من أن تأمر وتنهي وكأنك شرطي تسلط عليه، لذلك فالدعم باب الحل الأول لهذا الأمر الطارئ في حياة الأبناء.
الإنصات: أنصت إليه، دعه يتكلم، أو دعيها تتكلم عن الطرف الثاني، ولا بد أن تكون حذراً من التقليل من شأنه أو السخرية منه، فضلاً عن الطعن في أخلاقه أو سلوكه ، أو التلميح بأنه (أو أنها) اتخذ مساراً منحرفاً، فهذا خطاب يفرق ولا يجمع، ويهدم ولا يبني، فضلاً أنه من العوار التربوي أن تتعجل الهدم قبل أن تجد البديل، المهم أن تنصت ثم تنصت ثم تنصت حتى يشبع ابنك من الكلام عن حبيبته، أو ابنتك عن زميلها التي مالت إليه، أو بدأ قلبها في التعلق به.
ولا بد أن أُذكر كل أب وكل أم أنكم كنتم في يوم ما في هذه المرحلة، بل ربما تم التوافق وصولاً للزواج من خلال هذا الحب؛ لذلك فالحذر من استخدام كلمات قاسية، فالقسوة دوماً لا تأتي بخير.
إياك والعنف، فالضرب والحبس أو تحشيد الرأي ضد الابن أو الابنة في مثل هذه المشكلات طامة كبرى شديدة الأثر مميتة التوابع.
وتلك في نظري بدايات الحل، لكن لو كان الأمر متطوراً ووصل لمرحلة أنه بدأ أو بدأت تفكر فيه وتتواصل معه، وكان السن والظروف تتناسب مع مرحلة الخطبة؛ فيجب طرح ورقة الزواج والارتباط، وتلك مرحلة خطواتها معلومة ومحددة بداية من معرفة أهل الطرف الثاني والزيارات المتبادلة قبل الارتباط والسؤال عنهم وهكذا.. والأمر هنا ليس مقلقاً للدرجة وكثير من الزيجات تمت كذلك.
رسالة إلى الوالدين (لحظة من فضلكما):
والآن أوجه حديثاً لكل أب وأم، وكل مسؤول أدعوه أن يقرأ السطور القادمة بعناية كي يفهم قضية العلاقات وحجمها وفق الإحصائيات العالمية، حيث أشار مركز الأبحاث «Pew» في واشنطن، إلى دراسة إحصائية شارك فيها أكثر من 2250 مستخدماً لمواقع التواصل الاجتماعي، وبلغت نسبة الباحثين عن علاقات عن طريق الإنترنت حوالي 41%.
وفي هامش الدراسة، عبر 40% من الفتيات عن انزعاجهن من «الغايات السيئة» للشبان الذين يحاولون التعرف عليهن.
نسبة العلاقات الافتراضية في العالم العربي
وتحت عنوان «الإعلام الجديد وآثار تحوّل المجتمعات العربية من العلاقات التقليدية إلى الافتـراضية: دراسة ميدانية على عينة من مستخدمي مواقع التواصل العرب»، كان من أبـرز النتائج التـي توصل إليها البحث، أن 57.3% من المبحوثيـن يعتقدون بأن مواقع التواصل أضرت بجميع علاقاتهم الاجتماعية، مقابل 23.6% يـرون أنها أضرت بعلاقة المبحوث مع الأهل والأقارب، مقابل 19% يعتقدون أنها أضرت بعلاقة المبحوثيـن مع الأصدقاء وزملاء العمل.
وأشارت النتائج إلى أن 44% يعتقدون أن مواقع التواصل تسببت بتفكك الروابط الأسرية، مقابل 22.6% يـرون أنها أسهمت في تطويـر حياتهم الاجتماعية، وكان 14.3% من العينة يـرون أنها يمكن أن تساعد في تقوية الروابط الأسرية، وكان 11% من المبحوثيـن يعتقدون أن لها آثاراً أخـرى، بينما يعتقد 8% أنها تسبب تخلف الحياة الاجتماعية.
وأكدت نتائج البحث أن 20% من المبحوثيـن يقيمون علاقات افتـراضية لإشباع حاجات اجتماعية مفقودة عند الأسرة والأقرباء، و12.3%، يقيمون هذه العلاقات لإشباع حاجات مفقودة عند الأصدقاء، و16.6%، أقاموا هذه العلاقات لإشباع حاجات عاطفية مقابل 8.3%، لإشباع حاجات مفقودة عند زملاء العمل، وكان هناك 42.6% يقيمون هذه العلاقات لأسباب أخـرى.
واتضح من النتائج أن 59.3%، من المبحوثيـن لا يعتقدون بأن العلاقات الافتـراضية التـي يقيمونها على مواقع التواصل، يمكن أن تكون بديلاً مناسباً عن علاقاتهم الاجتماعية، بينما يعتقد 32% من أفراد العينة بدرجة متوسطة أن العلاقات الافتـراضية يمكن أن تكون بديلاً لعلاقاتهم الاجتماعية، مقابل 8.6% يعتقدون بدرجة كبيـرة أن العلاقات الافتـراضية كانت بديلاً مناسبًا لعلاقاتهم الاجتماعية.
وتوصل البحث إلى عدد من التوصيات التـي تدعو إلى تكثيف الدراسات وتحويل نتائجها إلى خطط وبـرامج لإيجاد الحلول المناسبة لمواجهة الآثار السلبية الناتجة عن هذه المشكلة.
ومع هذه الأرقام التي قد يراها البعض مقلقة، وأنا منهم كمتخصص في المجال التربوي، يبقى السؤال: ما نسبة نجاح الزيجات التي تتم من خلال هذه العلاقات الافتراضية ونسبة نجاحها؟ فسهل جداً أن يستشف القارئ هذا النجاح.
نسبة الزواج من العلاقات الافتراضية
فقد أظهرت دراسة حديثة بجامعة فيننا النمساوية بأن التعارف عبر الإنترنت يغير بنية المجتمع ويؤثر في تكويناته الاجتماعية، وما أن يبدأ التعارف الافتراضي إلا وسرعان ما يتحول إلى حب أسرع بثلاث مرات من ذلك الذي يكون حقيقياً، فحوالي 17% من الزيجات تبدأ في الإنترنت تحديداً عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وهذه الزيجات من المرجح أن تنتهي بالطلاق خلال السنة الأولى، بل يمتد عمرها أكثر من ذلك.
ختاماً
لقد وضعت الشريعة الإسلامية سياجات تحصين لمجتمعها ولأسره ولأفراده، تلك السياجات تبدأ من تحريم النظرة الحرام وما يستتبعها، وحتى طرائق التعامل بين الآباء والأبناء التي سنَّها المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم بسيرته العطرة وسيرة صحابته الزاهرة.
وما على الآباء والأمهات غير أن يبدؤوا منذ الصغر في غرس شعائر هذا الدين ومبادئه في نفوس الأبناء ذكوراً وإناثاً، وأن يحافظوا على مساحة الحوار ليعتاد الأبناء عليها، وأن يتعلموا فنون الإنصات والاستماع الجيد، ليتمكنوا من عبور طريق الحياة مع أبنائهم في أمن وأمان.
على الأب والأم أن يعيا أن أبناءهما ينتمون إلى جيل يختلف عن سابقيه، فالماضي ليس كالحاضر، ويقيناً ليس كالمستقبل، وهذا ما قاله الإمام علي رضي الله عنه، بمعناه: «لا تحملوا أبناءكم على ما ترجحه عقولكم، فقد خلقوا لزمان غير زمانكم».
والأب والأم الواعيان هما اللذان يسبران أغوار عقول أولادهما، ويؤسسان لهم ضمانات مراقبة، من قلب يقظ وضمير حي، ورغبة في الحوار الدائم للاستفادة من تجارب الآخرين.
____________________________
1- دراسة بعنوان «استخدامات الشباب لتطبيقات التفاعل بوسائل التكنولوجيا الحديثة وتأثيراتها على العلاقات الأسرية».
2- بحث بعنوان «الإعلام الجديد وآثار تحوّل المجتمعات العربية من العلاقات التقليدية إلى الافتـراضية: دراسة ميدانية على عينة من مستخدمي مواقع التواصل العرب بدولة الإمارات».
3- بحث بعنوان «أثر استخدام شبكات التواصل الإلكترونية على العلاقات الاجتماعية».
4- بحث بعنوان «العلاقات الافتراضية الرقمية».
5- بحث بعنوان «تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على العلاقات الاجتماعية والأسرية لدى طلبة الجامعة السعودية الإلكترونية بمدينة الرياض».
6- بحث بعنوان «العلاقات الافتراضية بين الشباب في المجتمع السعودي دراسة في الخصائص».
(*) كاتب وباحث في مجال العلاقات الإنسانية والأسرية.