لم يكن مشهد الحديبية بالذي يمر مرور الكرام على المتأمل في السيرة النبوية الناهل من حركات النبي صلى الله عليه وسلم وسكناته ديناً ما يزال غضاً طرياً نستخلص منه الدروس والعبر، فهو الذي لا ينطق عن الهوى، وما تحرك إلا بوحي، وقد أدرك صحابته رضوان الله عليهم ذلك منذ لحظة الإيمان الأولى؛ فاتبعوه مستمسكين بتلابيب الاقتداء ومراتب الفهم وشرائط المحبة.
إلا أن المشهد الحديبي قبل الصلح كان ممتلئاً بالشحنات العاطفية الجارفة والحنين الفياض إلى مكة الحبيبة؛ حيث العودة بعد سني الهجرة وعناق الكعبة المكرمة والصلاة ببيت الله الحرام والخروج محرمين أسراباً من الملائكة قد ودعت المدينة باتجاه أرض الرسالة الأولى.
رغم هذه الشجون، لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته بالذين يظنون أن قريش ستتركهم ودينهم، فلم ينسوا الهجرة وأيام التناحر في ساحات مكة بين أبناء العمومة، وعلى إثر ذلك خرج المسلمون متوشحي سيوفهم يسوقون الهدي، فلا هم يطلبون القتال، ولا يسلمون أنفسهم للموت، ولا هم متجبرون ولا مستضعفون، إنه الإسلام يأبى إلا أن تكون كلمة الله هي العليا.
وحدث ما تحدثت به الضمائر ونطقت به العيون، فقد أبت قريش عمرة المسلمين، وحالت دونهم والكعبة المشرفة، ثم تابعت إرسال الوفود لرد المسلمين عن وجهتهم، فكان أن عُقد صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو ممثلاً عن قريش ورهطها، وكان الاتفاق على أن يرجع المسلمون هذا العام على أن يعودوا من العام القادم، وأن تعقد هدنة مدتها 10 سنوات؛ ومن أراد أن يدخل في عهد المسلمين دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد المشركين فله ذلك، ثم من جاء مسلماً من قريش فعلى المسلمين رده إليها، ومن جاء كافراً من المسلمين فليس على قريش أن ترده، وقد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فيما كتب الصلح علي بن أبي طالب رضي الله عنه وخُتم بخاتم النبوة.
لم يكن حزن الصحابة رضوان الله عليهم بأقل من فرحتهم قبل ساعات من الصلح، وهم الذين امتلؤوا أفراحاً وشجوناً بلُقيا البيت الحرام والطواف والصلاة في أطهر بقعة على الأرض، ولكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن ليكتم عاطفته في قلبه، وهو من هو رضي الله عنه، فم يتسع صدره، ولم يتقبل عقله الحكمة الإلهية من توفيق النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا، وقد رأى في شروط الصلح من عودة المسلمين ورد المؤمنين إلى مشركين دنيّة ومذلة.
فقد روي عن سهلُ بنُ حنيفٍ يومَ صفِّينَ أنه قام فقال: أيها الناسُ! اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يومَ الحديبيةِ، ولو نرى قتالًا لقاتلنا، وذلك في الصلحِ الذي كان بين رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وبين المشركين، فجاء عمرُ بنُ الخطابِ، فأتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ! ألسنا على حقٍّ وهم على باطلٍ؟ قال: «بلى»، قال: أليس قتلانا في الجنةِ وقتلاهم في النارِ؟ قال: «بلى»، قال: ففيمَ نُعطي الدنيَّةَ في ديننا، ونرجعُ ولما يحكم اللهُ بيننا وبينهم؟ فقال: «يا ابنَ الخطابِ! إني رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعني اللهُ أبدًا».
ما أصعبه من موقف حيث يراجع عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر عقده وأمضاه واجتمعت عليه كلمة المسلمين، إلا أنه رضوان الله عليه يستفهم عن العلة مع التسليم والإذعان والالتزام بالجماعة وعدم شق عصا الطاعة، ثم ما كان إلا أن ذهب إلى أبي بكر الصديق فقال: يا أبا بكرٍ! ألسنا على حقٍّ وهم على باطلٍ؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنةِ وقتلاهم في النارِ؟ قال: بلى، قال: فعلام نُعطي الدنيَّةَ في ديننا، ونرجعُ ولما يحكمُ اللهُ بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابنَ الخطابِ! إنَّهُ رسولُ اللهِ ولن يُضيِّعَه اللهُ أبدًا.. وزاد: يا عمر، الزم غرزه؛ أي: تمسك بأمره، حيث كان، فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
وهنا تتجلى حكمة الصدق في الصديق، فقد وافق كلامه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يعلم بما دار، وهذا -لعمري- هو الشيء الذي وقر في صدر أبي بكر رضي الله عنه والذي سبق به، حيث تحقيق معنى الإسلام في التسليم التام لأمر الله ورسوله، وقد سمي بالصديق إذ عرض عليه قول المشركين في تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء ولم يكن قد وصله الخبر فقال: «إن كان قال فقد صدق.. إني أصدقه في نبأ السماء»، فآمن وزاد وصدق الغيب ووافق كلامه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأي كرامة هذه وأي رفعة ومنزلة!
وإن نصيحة الصديق لتصلح شعاراً لكل مسلم في هذا الزمان المتأخر، حيث تشابك الخير والشر وتداخلا، ولا مناص من ذلك سوى اتباع السُّنة النبوية والتمسك بها والعض عليها بالنواجذ، والدعاء الدائم بالتثبيت والاعتصام بحبل الله والتزام صحبة صالحة مرضية تثبت صاحبها إذا زاغ بصره أو زلت قدمه.