- ما المقصود بالخروج على الحاكم؟ وكيف يكون ذلك الخروج؟ وما حكم الشرع إذا أتت مجموعة من الناس وقام أفرادها بالمبايعة فيما بينهم بالولاء والطاعة إلى شخص معين أو جماعة في ظل دولة قائمة، وحاكمها يحكم بالشريعة؟ ثم ما الحكم الشرعي في مثل هؤلاء؟
– يقصد بالخروج على الحاكم: حمل السلاح، والقيام بالثورة المسلحة ضده، وهو الذي يسميه الفقهاء “البغي”، ويسمون أصحابه “البغاة”، ويعرف الفقهاء “البغاة” بأنهم: الخارجون على الإمام (ولي الأمر الشرعي) بتأويل سائغ، ولهم شوكة، ولو لم يكن فيهم أمير مطاع.
وإنما سموه بغاة، لعدولهم عن الحق، وما عليه أئمة المسلمين، أخذاً من قوله تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات: 9).
ومن الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار بن ياسر: “تقتلك الفئة الباغية”، وقد كان مع عليّ رضي الله عنه، وقتله رجال معاوية في حرب “صفين” المعروفة.
فإذا اختل شرط من الشروط المشار إليها في تعريف “البغاة” أو الخارجين، بأن لم يخرجوا خروجاً مسلحاً، أو كان معهم سلاح وليس لهم شوكة لكونهم جمعاً يسيراً لا وزن لهم، أو لم يخرجوا على إمام شرعي، أو خرجوا بلا تأويل، أو بتأويل غير سائغ (قطاع طريق) تطبق عليهم أحكامهم.
وأما الحكم فيما إذا أتت مجموعة من الناس، وقاموا فيما بينهم بالولاء والطاعة إلى شخص معين أو جماعة، في ظل دولة قائمة، وحاكمها يحكم بالشريعة، فهذا كلام مجمل يحتاج إلى بيان وتفصيل، حتى لا تضيع الحقيقة، ويلتبس السبيل.
فإذا كان المراد بالولاء والطاعة لهذا الشخص أو الجماعة: التحاب فيما بينهم، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر، والتناصح في الدين، والطاعة لرئيسهم أو أميرهم في المعروف، فلا ضير في ذلك شرعاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمّرُوا أحدكم”.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع على القليل العارض في السفر، وهو تنبيه على أنواع الاجتماع الأخرى.
ويدخل في ذلك مبايعة أعضاء الجمعيات الدينية لرؤسائهم.
إنما المحظور هنا: أن يُبايع شخص ما إماماً وحاكماً مناهضاً لولي الأمر الشرعي، وحارباً له، لما وراء ذلك من فتنة تُراق فيها الدماء، وتُذهب الأموال.
لهذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جَور الأمراء وانحرافهم، حفاظاً على وحدة الجماعة، كما أمرنا بطاعة الأمراء إلا في المعصية.
روى الشيخان عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من رأى من أمير شيئاً يكرهه، فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات، فميتته جاهلية” (متفق عليه).
وفي حديث ابن عمر مرفوعاً: “السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة”.
وأما الحاكم الشرعي في هؤلاء الخارجين عن طاعة الحكم فهذا كلام مجمل، ولا بد من بيان نوع هذا الخروج وكيفيته وأدواته.
فإذا كان الخروج على طاعة الحكم بالسيف، أي بالقوة المادية العسكرية من فئة لها قوة وشوكة، فإن كان لهم شبهة في خروجهم، وهو ما يعبر عنه الفقهاء بأن لهم تأويلاً سائغاً، أي له وجه ما، كأن يعترضوا على بعض المظالم الواقعة، أو على التقصير في بعض جوانب الشريعة، أو التهاون مع أعداء الدين والأمة، بالتمكين لقوتهم أو جنودهم من أرض الإسلام، أو غير ذلك مما له وجه، وإن كان الرد عليه ممكناً وميسوراً، فهؤلاء “بغاة” كما سماهم الفقهاء في المذاهب المختلفة، وقتال البغاة مشروع، لقول الله تعالى: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) (الحجرات: 9).
وللحديث الصحيح: “من أتاكم وأمْرُكُم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم فاقتلوه” (رواه أحمد ومسلم).
وقد قاتل عليّ رضي الله عنه ومن معه من الصحابة أهل النهروان الذين خرجوا عليه، فلم ينكره أحد.
قال الفقهاء: ويلزم الإمام مراسلة البغاة، وإزالة شبههم، وما يدّعون من المظالم؛ لأن ذلك وسيلة إلى الصلح المأمور به، والرجوع إلى الحق، ولأن علياً رضي الله عنه راسل أهل البصرة يوم “الجمل”، قبل الوقعة، وأمر أصحابه ألا يبدؤوهم بقتال.
وروى عبد الله بن شداد أن علياً رضي الله عنه لما اعتزله “الحرورية” بعث إليهم عبد الله بن عباس، فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف.
فإن رجعوا، فالحمد لله، وإلا لزمه قتالهم، ويجب على رعيته معاونته، استجابة لقول الله تعالى: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) (الحجرات: 9).
ولأن الصحابة قاتلوا -مع أبي بكر رضي الله عنه– مانعي الزكاة، وقاتل عليّ رضي الله عنه أهل البصرة يوم “الجمل”، وأهل الشام بـ “صفين”، وأبو بكر، وعليّ من الخلفاء الراشدين المهديين –بإجماع الأمة– الذين أمرنا أن نتبع سُنتهم، ونعض عليها بالنواجذ.
وإذا حضر من لم يقاتل لم يجز قتله، لأن علياً قال: إياكم وصاحب البرنس -يعني: محمد بن طلحة (السجاد)- وكان قد حضر طاعة لأبيه ولم يقاتل، ولأن القصد كفهم، وهذا قد كف نفسه.
قال الفقهاء: وإذا ترك البغاة القتال حرم قتلهم، وقتل مُدْبرهم وجريحهم، فقد نادى منادي عليّ يوم “الجمل”: لا يُقتل مُدْبر، ولا يدقف (أي لا يجهز) على جريح، ولا يهتك ستر، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ولأن المقصود دفعهم، فإذا حصل لم يجز قتلهم.
وبهذا نرى تشديد الشرع في قضية سفك الدماء؛ لأن هؤلاء البغاة مسلمون، والأصل في دمائهم الحرمة، وأنها معصومة، فلا يجوز التوسع فيها بغير حق.
المخالفة باللسان أو القلم
أما إن كان الخروج بمجرد إظهار رأي مخالف والتعبير عنه باللسان أو القلم، فهذا من المعارضة المشروعة، ما دامت في إطار السلم.
ولا يجوز معارضة القلم أو اللسان بالسيف، وإنما تقابل الحجة بالحجة، والفكرة بالفكرة، أما مقابلة قوة المنطق بمنطق القوة، فلا يفيد إلا التمكين لأصحاب المنطق والحجة في قلوب الناس.
قال الفقهاء: إذا أظهر قوم رأي الخوارج كتكفير مرتكب الكبيرة، وسب الصحابة، ولم يخرجوا عن قبضة الإمام: لم يتعرض لهم، لأن علياً رضي الله عنه سمع رجلاً يقول: لا حكم إلا لله -تعريضاً للرد عليه في قبول التحكيم– فقال عليّ: كلمة حق أريد بها باطل! ثم قال: لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء (الحق المالي) ما دامت أيديكم معنا (يعني: على الأعداء)، ولا نبدأكم بقتال.
ويؤخذ من هذا مشروعية وجود حزب معارض لما تتبناه الحكومة من أفكار وأحكام، ما دام عمله سلمياً، ولا يشهر السلاح في وجهها، لإقرار عليّ رضي الله عنه للخوارج، مع مخالفتهم له، ولأصحابه، وقد أقر الصحابة على ذلك ولم ينكروه، فهو ضرب من الإجماع السكوتي.
العدد (1447)، ص59 – 27 محرم 1422ه – 21/4/2001م.