لا تكتفي الدولة الصهيونية بتسريع التطبيع الرسمي مع دول عربية وإسلامية، ولا محاربة منظمات مقاطعة «إسرائيل» (BDS)، ولكنها تركز أكثر على التطبيع مع الشعوب العربية، إجبارياً، عبر محاولة غسيل مخ الأجيال الجديدة بتغيير مناهج التعليم.
وفي سبيل ذلك، أنشأت «تل أبيب»، بالتعاون مع هيئات يهودية وأمريكية، منظمات وظيفتها المعلنة هي «مراقبة السلام والتسامح الثقافي»، ولكنها في حقيقتها تسعى لمراقبة مناهج وزارات التعليم العربية.
والضغط من أجل تعديلها بما يتوافق مع إعادة تصوير «إسرائيل» للطلاب العرب على أنهم «واحة سلام»، و«دولة جارة متفوقة تكنولوجياً»، وأنها ليست «عدواً محتلاً معادياً للعرب»، بل هي «شعب مضطهد» يواجه «أشراراً» يحاولون القضاء عليهم.
منظمات «إسرائيلية» أمريكية تراقب مناهج التعليم العربية وتضغط لتغييرها
إحدى هذه المنظمات التابعة لـ«إسرائيل» هي «معهد مراقبة السلام والتسامح الثقافي» في التعليم المدرسي «الإسرائيلي» المعروف اختصاراً بـ«IMPACT-SE»، التي تصدر تقارير دورية، آخرها صدر في أبريل 2023م لرصد كيف سرَّعت مصر ودول عربية عملية تغيير المناهج الدراسية لصالح «إسرائيل» واليهود.
مناهج جديدة
موقع صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية شرح في عدد 23 أبريل 2023 كيف نجحت ضغوط هذه المنظمة، وضرب مثالاً بنجاحاتها في مصر.
وأوضح الموقع أن وزارة التعليم المصرية أصدرت نسخاً منقحة من المناهج الدراسية في مصر، بعدما حذفت كل المواد والنصوص السابقة عن اليهود، أو تلك المتعلقة بما يسمى «معاداة السامية»؛ في إشارة للعداء للدولة الصهيونية، بعد الضغوط اليهودية.
ونقل عن المعهد الذي يراقب مناهج التعليم العربية، ومنها الخليجية، ليقدم تقارير حول التطبيع، أنه راجع وفحص 271 كتاباً مدرسياً مصرياً تم إصدارها في طبعة العام الدراسي 2022/ 2023، في مواد اللغة العربية والتربية الإسلامية والدراسات الاجتماعية والتاريخ والجغرافيا والفلسفة، ورصد تغييرات جذرية لصالح اليهود و«إسرائيل»، وفق قوله.
وأوضح الموقع أنه تم إلغاء الصفات السلبية التي كان يتم وصف اليهود بها في الكتب المدرسية، مثل: عدم الوفاء بالعهود والاحتيال والجشع، وتم وصفهم بأوصاف مختلفة، هي: التسامح، والتعايش بين اليهود والديانات الإسلامية والمسيحية، وأن لهم نفس الحقوق الدينية والمدنية التي للمسلمين والمسيحيين دون التركيز على الاحتلال.
«يديعوت أحرونوت»: المناهج العربية الجديدة تغيرت ولم تعد تصف «إسرائيل» كعدو وإنما «جار ودود»!
كما تمت إزالة مصطلح «الكيان الصهيوني» الذي كانت تصف به كتب دراسية عربية دولة الاحتلال، وكذا عبارة «دولة غير شرعية» باعتبار أن «إسرائيل» أقيمت بهدف التوسع على حساب الفلسطينيين ونهبت أراضيهم.
وتقول صحيفة «يديعوت أحرونوت»: إن تقرير «المعهد الإسرائيلي» الذي يراقب المناهج العربية أوضح أن المناهج الجديدة سعت لإقناع الطلاب أن اليهود تعرضوا للظلم منذ أكثر من 70 عاماً، وتعرضوا لأبشع جرائم القتل في تاريخ البشرية من خلال الهولوكوست النازي الذي تسبب بمقتل 6 ملايين يهودي.
وصل الأمر في بعض المناهج بإلغاء مصطلحات مدينة «القدس» أو «بيت المقدس» وتغييرها إلى مدينة «أورشليم»، وإبراز ارتباط اليهود بما يسمى «هيكل سليمان» على اعتبار أنه حق توراتي، حسبما زعم «المعهد الإسرائيلي» في تقريره.
إشادة باتفاقات «أبراهام»!
وتضمنت الكتب الدراسية الجديدة إبراز المكاسب السياسية والاقتصادية لاتفاقات السلام بين مصر و«إسرائيل» وبينها وبين الدول العربية (اتفاقات أبراهام)، وكيف تم تطوير التعاون والعلاقات الاقتصادية وتبادل الزيارات الودية باعتبارها «دول جوار».
وحسب المعهد، أصبح يُطلب من الطلاب في المناهج الجديدة حفظ أحكام معاهدة السلام، وتصوير العلاقات على أنها علاقات ودية تعاونية بين دول الجوار، دون التطرق لاحتلال «إسرائيل» أراضي سيناء أو الجولان أو فلسطين.
كما يُطلب من الطلبة حفظ أحكام معاهدة السلام، ووصف الاتفاقية بأنها «علاقات ودية»، بعد أن كانت سابقاً توصف بـ«علاقات طبيعية»، وأن العلاقة القائمة هي احترام كل جانب لسيادة الطرف الآخر واستقلاله.
وقبل عقد من الزمان، كانت دروس التاريخ للمرحلة الابتدائية تؤكد أن «إسرائيل» اعتدت على مصر مراراً، واحتلت أجزاء من أرضها، قبل أن يختفي أي ذكر لتلك الاعتداءات في مناهج المراحل التعليمية اللاحقة.
وتتحدث كتب التربية الإسلامية الجديدة عن الإيجابية في العلاقات بين اليهود والديانات الإسلامية والمسيحية، باعتبارها المصدر الرئيس لحقوق الإنسان والحريات العامة، وأن «الوصايا العشر» التي نقلها سيدنا موسى لقومه، هي الأرضية التي يجب التمسك بها في العلاقات بين الشعوب بغض النظر عن الهوية والدين والعرق.
يرصدون خطب أئمة المساجد لمنعهم من عرقلة التطبيع وتغيير عقول الأطفال
وترصد أشكال التعايش بين الديانات الثلاث؛ مثل زواج الرجال المسلمين أو المسيحيين من النساء اليهوديات، واعتراف الإسلام بالتوراة ككتاب مقدس، وأن الإسلام يبيح أكل طعام «الكوشر»، وهو الأكل الحلال في الدين اليهودي.
وفي مادة الدين، حُذف كل ما يدعو إلى الجهاد، وتقلصت دروس مادة التاريخ التي تتناول الحروب بين مصر و«إسرائيل» في المناهج الجديدة من 32 صفحة إلى 12 صفحة فقط، في المناهج المصرية الجديدة، وفق خبراء تربويين.
ويؤكد تقرير «معهد مراقبة السلام والتسامح الثقافي» أن هذه التعديلات جاءت في سياق خطة مصرية رسمية معلنة منذ عام 2018، وتستمر حتى عام 2030، لتعديل المناهج بدأت بالصف الأول وحتى الخامس الابتدائي، ثم الصف السادس وحتى المرحلة الإعدادية، وفق ماركوس شيف، الرئيس التنفيذي للمعهد.
تشكيل هوية الصغار على «عدم كراهية إسرائيل»
لأن الهدف الصهيوني منذ اغتصاب فلسطين هو السعي لتغيير صورة المحتل في عقول الطلاب والأجيال العربية كي يسهل التطبيع مع الحكومات، فقد تم التركيز على تشكيل هوية الصغار على «عدم كراهية إسرائيل».
وقد كشفت دراسة أخرى قامت بها منظمة يهودية بالاشتراك مع «معهد توني بلير للتغيير العالمي» الذي يديره رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بتاريخ سبتمبر 2021، حملت عنوان «تعليم السلام والتسامح في العالم العربي بعد عقدين من 11 سبتمبر»، كيف نجحوا في تغيير المناهج التعليمية في عدد من الدول العربية عبر حذف انتقادات لليهود و«إسرائيل» من الكتب المدرسية.
المنظمة اليهودية، وهي رابطة مكافحة التشهير «إيه دي إل» (ADL)، قالت: إن الهدف هو تربية جيل لا يعرف معاداة أو كراهية الغرب أو «إسرائيل»، عبر تغيير المناهج التعليمية لتشكيل هوية الصغار ومواقفهم من الآخرين.
أشارت إلى عمل جماعات الضغط (المنظمات اليهودية الأمريكية) على تمرير التغييرات في النصوص المدرسية في المنطقة العربية بعدة وسائل، منها عقد لقاءات متتالية مع معظم المسؤولين العرب الزائرين للعاصمة الأمريكية.
ودفع أعضاء الكونجرس والمسؤولين الأمريكيين لإثارة الموضوعات نفسها في لقاءاتهم مع المسؤولين العرب، والضغط عليهم، والتأثير على المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي وهيئات المعونة كي تشارك في عملية تغيير المناهج تحت مسمى «الابتكار»، و«الإصلاح»، فضلاً عن استخدام الإعلام والتشهير في هذه الحملات لتحقيق أهدافهم.
كما أكدت، في التقرير، أنها ترصد وتسجل خطب المساجد في الدول العربية كي تطالب بوقف الأئمة الذين يؤدون دوراً في تشويه «إسرائيل» واليهود، وتضع أجندة التغيير دون أن يعرقلها هؤلاء الأئمة.
طمس قصص إسلامية
حين أثيرت أزمة في البرلمان المصري، في فبراير 2021، حول احتمالات تدريس اليهودية للطلاب في المدارس ومن ثم إزالة آيات وأحاديث نبوية ضد اليهود، تم نفي ذلك، لكن صحفاً رصدت إزالة آيات قرآنية وأحاديث من المناهج بالفعل في أوقات سابقة.
ففي عام 2015، قالت الوزارة: إنها أزالت «النصوص والموضوعات التي تؤدي إلى التطرف والتحريض على العنف»؛ مثل إزالة قصص عن صلاح الدين الأيوبي، وعقبة بن نافع من منهج اللغة العربية، بدعوى أنها تحض على القتال والحرب وقتل وطرد مسيحيين بدعاوى أنهم «صليبيون» وحرق للأعداء، حسبما ذكرت قناة «العربية»، في 20 مايو 2020.
وقالت المتحدثة باسم وزارة التربية والتعليم أماني ضرغام، حينئذ: إن الوزارة ارتأت أن «الأجزاء المحذوفة تحرّض على العنف».
وشمل الحذف أيضاً 6 فصول تعادل نصف المقرر من قصة فاتح بلاد المغرب العربي عقبة بن نافع المقررة على الصف الأول الإعدادي، وكذا الخليفة عمر بن الخطاب، والصحابي عبدالله بن الزبير، من درس للصفين الخامس والثاني الابتدائي يحكي عن شجاعة الأخير وقت أن كان طفلاً أمام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
أيضاً نشرت صحيفة «الأهرام»، أول مارس 2015، تقريراً ينتقد درساً في اللغة العربية للصف الثالث يؤصل فكرة مقاومة العدو، وزعمت أن هذا «تشبيه جهادي»، ويروج لأفكار الدولة الإسلامية (داعش).
وفي الدرس الافتراضي تقوم «طيور البلابل» بحرق «ملك الصقور» الذي يهددهم وينهب طعامهم بالقوة، بدلاً من ترك أوطانهم وطعامهم للصقور.
أيضاً بدأ الترويج لما يسمى «الدين الإبراهيمي» الذي يجمع بين الأديان الثلاثة، وهو ما حذر منه شيخ الأزهر.
وقد حذرت د. نعيمة عبدالجواد، أستاذة الأدب والترجمة بجامعة القاهرة، مما يسمى «الديانة الإبراهيمية الجديدة»، وقالت: إن مصدرها مراكز بحثية ضخمة وغامضة انتشرت مؤخراً في العالم، تسمى «مراكز الدبلوماسية الروحية»، وأوضحت في مقال بموقع «ميدل إيست أون لاين»، في 15 أكتوبر 2020، أنه «يعمل على تمويل تلك المراكز أكبر وأهم الجهات العالمية، مثل الاتحاد الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والولايات المتحدة الأمريكية»، مؤكدة أن المستهدف هو الجيل الجديد.