- يحرص بعض المسلمين على أن يحجوا كل عام، وربما حرصوا –مع ذلك– على أن يعتمروا أيضاً في كل رمضان، مع ما في الحج في هذه السنين من زحام شديد، يسقط معه بعض الناس صرعى، من كثافة التزاحم؛ وخاصة عند الطواف والسعي ورمي الجمار.
أليس أولى بهؤلاء أن يبذلوا ما ينفقونه في حج النافلة، وعمرة التطوع، في مساعدة الفقراء والمساكين، أو في إعانة المشروعات الخيرية، والمؤسسات الإسلامية، التي كثيراً ما يتوقف نشاطها لعجز مواردها، وضيق ذات يدها؟ أم تعتبر النفقة في تكرار الحج والعمرة أفضل من الصدقة والإنفاق في سبيل الله ونصرة الإسلام؟
– ينبغي أن يعلم أن أداء الفرائض الدينية أول ما يطالب به المكلف، وبخاصة ما كان من أركان الدين، كما أن التطوع بالنوافل، مما يحبه الله تعالى، ويقرب إلى رضوانه.
وفي الحديث القدسي الذي رواه البخاري: “ما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به..”، ولكن ينبغي أن نضع أمام أعيننا القواعد الشرعية التالية:
أولاً: أن الله تعالى لا يقبل النافلة حتى تؤدَّى الفريضة، وبناء عليه، نرى أن كل ن يتطوع بالحج أو العمرة وهو –مع هذا– يبخل بإخراج الزكاة المفروضة عليه كلها أو بعضها، فحجه وعمرته مردودان عليه وأولى من إنفاق المال في الحج والعمرة أن يطهره أولاً بالزكاة.
ومثل ذلك من كان مشغول الذمة بديون العباد من التجار وغيرهم، ممن باع له سلعة بثمن مؤجل، فلم يدفعه في أوانه، أو أقرضه قرضاً حسناً، فلم يوفه دينه.
فهذا لا يجوز له التنفل بالحج أو العمرة قبل قضاء ديونه.
ثانياً: أن الله لا يقبل النافلة إذا كانت تؤدي إلى فعل محرم، لأن السلامة من إثم الحرام مقدمة على اكتساب مثوبة النافلة.
فإذا كان يترتب على كثرة الحجاج المتطوعين إيذاء لكثير من المسلمين، من شدة الزحام مما يسبب غلبة المشقة، وانتشار الأمراض، وسقوط بعض الناس هلكى، حتى تدوسهم أقدام الحجيج وهم لا يشعرون، أو يشعرون ولا يستطيعون أن يقدموا أو يؤخروا؛ كان الواجب هو تقليل الزحام ما وجد إلى ذلك سبيل.
وأولى الخطوات في ذلك أن يمتنع الذين حجوا مرات عدة عن الحج ليفسحوا المجال لغيرهم، ممن لم يحج حجة الفريضة.
ولا معنى قول القائل: إن ذلك يؤخذ مني وأنا مضطر، فإنه لو قعد في البيت، أو رجع من الطريق لم يؤخذ منه شيء، فهو الذي ساق نفسه إلى حالة الاضطرار، (انظر الإحياء، ج1، ص236، ط الحلبي، وانظر أيضاً كتابنا: “العبادة في الإسلام، ص 324 وما بعدها، ط ثانية أو ثالثة).
والشاهد هنا أن التنفل بالحج إذا كان من ورائه ارتكاب محرم، أو مجرد معاونة عليه، ولو غير مباشرة، فهو غير محمود ولا مشروع، وتركه أولى بالمسلم الذي يسعى لإرضاء ربه، هذا هو الفقه النير.
درء المفاسد مقدم.. وأبواب التطوع واسعة
ثالثاً: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وخصوصاً إذا كانت المفاسد عامة، والمصالح خاصة.
فإذا كانت مصلحة بعض الأفراد أن يتنفل بالحج مرات ومرات، وكان من وراء ذلك مفسدة عامة للألوف من الحجيج، مما يحلقهم من الأذى والضرر في أنفسهم وأبدانهم –حتى هؤلاء المتنفلون أيضاً يتأذون من ذلك– كان الواجب منع هذه المفسدة بمنع ما يؤدي إليها وهو كثرة الزحام.
رابعاً: أن أبواب التطوع بالخيرات واسعة وكثيرة، ولم يضيق الله على عباده فيها، والمؤمن البصير هو الذي يتخير منها ما يراه أليق بحاله، وأوفق بزمانه وبيئته.
فإذا كان في التطوع بالحج أذى أو ضرر يلحق بعض المسلمين، فقد فسح الله مجالات أخرى، يتقرب بها إلى ربه دون أن تؤذي أحداً.
فهناك الصدقة على ذوي الحاجة والمسكنة، ولا سيما على الأقارب وذوي الأرحام، فقد جاء في الحديث: “الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة” (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم عن سلمان بن عامر الصيفي بإسناد صحيح)، وقد تكون نفقتهم عليه واجبة، إذا كان من أهل اليسار وهم من أهل الإعسار.
وكذلك على الفقراء من الجيران، لما لهم من حق الجوار بعد حق الإسلام، وقد ترتفع المساعدة المطلوبة لهم إلى درجة الوجوب، الذي يأثم من يفرط فيه.
ولهذا جاء في الحديث: “ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع” (رواه الطبراني وأبو يعلى عن ابن عباس، ورواه الحاكم عن عائشة والطبراني والبزار عن أنس مع اختلاف في اللفظ).
وهناك الإنفاق على الجمعيات الدينية، والمراكز الإسلامية، والمدارس القرآنية، والمؤسسات الاجتماعية، ولكنها تتعثر وتتخبط لعدم وجود من يمولها ويعينها، على حين تجد المؤسسات التبشيرية مئات الملايين من الدولارات أو الجنيهات أو غيرها من العملات، ترصد لها، ولإنجاحها في سبيل التشويش على الإسلام، وتمزيق وحدة المسلمين، ومحاولة إخراج المسلم عن إسلامه، إن لم يكن إدخاله في النصرانية، المهم زعزعة إسلامه، وإن بقي بغير دين!
وإخفاق كثير من المشروعات الإسلامية ليس لقلة مال المسلمين، فمن الأقطار الإسلامية اليوم ما يعد أغنى بلاد العالم، ولا لقلة أهل الخير والبذل فيهم، فلا يزال في المسلمين الخيرون الطيبون، ولكن كثيراً من البذل والإنفاق يوضع في غير موضعه.
ولو أن مئات الألوف الذين يتطوعون سنوياً بالحج والعمرة رصدوا ما ينفقون في حجهم وعمرتهم لإقامة مشروعات إسلامية، أو لإعانة الموجود منها، ونظم ذلك تنظيماً حسناً، لعاد ذلك على المسلمين عامة بالخير وصلاح الحال والمال، وأمكن للعاملين المخلصين للدعوة إلى الإسلام أن يجدوا بعض العون للصمود في وجه التيارات التبشيرية والشيوعية، والعلمانية، وغيرها من التيارات العميلة للغرب أو الشرق، التي تختلف فيما بينها، تتفق على مقاومة الاتجاه الإسلامي الصحيح، وعرقلة تقدمه، وتمزيق الأمة الإسلامية بكل سبيل.
هذا ما أنصح به الإخوة المتدينين المخلصين الحريصين على تكرار شعيرتي الحج والعمرة أن يكتفوا بما سبق لهم من ذلك، وإن كان ولا بد من التكرار، فليكن كل خمس سنوات، وبذلك يستفيدون فائدتين كبيرتين لهم أجرهما:
الأولى: توجيه الأموال الموفرة من ذلك لأعمال الخير والدعوة إلى الإسلام، ومعاونة المسلمين في كل مكان من عالمنا الإسلامي، أو خارجه حيث الأقليات المسحوقة.
الثانية: توسيع مكان لغيرهم من المسلمين الوافدين من أقطار الأرض، ممن لم يحج حجة الإسلام المفروضة عليه، فهذا أولى بالتوسعة والتيسير منهم بلا ريب، وترك التطوع بالحج بنية التوسعة لهؤلاء، وتخفيف الزحام عن الحجاج بصفة عامة، لا يشك عالم الدين أنه قربة إلى الله تعالى، لها مثوبتها وأجرها “وإنما لكل امرئ ما نوى”.
هنا يذكر أن جنس أعمال الجهاد أفضل من جنس أعمال الحج، وهذا ثابت بنص القرآن، يقول تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {19} الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (التوبة).
العدد (1488)، ص59 – 27 ذو القعدة 1422ه – 9/2/2002م.