شرع اللهُ عز وجل الزواج لعموم البشر، ونهاهم عن التبتل، وجعل ذلك سنة المرسلين، يقول تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) (الرعد: 38)، وقد أشار القرآن الكريم إلى عدد من الأنبياء عليهم السلام كان لهم أزواجٌ وذرية، منهم: آدم ونوح وإبراهيم ولوط ويعقوب وموسى، ويقول النبي ﷺ: «أربعٌ من سنن المرسلين: «الحياء والجماع والتعطر والسواك» (الترمذي).
رسالةُ الوجودِ
لقد جُعل الزواجُ للمحافظة على الحياة، وامتدادها حتى قيام الساعة، ومن هنا كان رفض شريعتنا للرهبانية؛ إذ إنها تقطع حبل الحياة، وتفني الجنس البشري؛ من أجل ذلك حضّ النبي ﷺ عليه في أحاديث كثيرة منها: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف» (أحمد). والدولة المسلمة تعين على الزواج وتُكسب المقبلين عليه وتدعو إلى تيسيره.. عن المستورد بن شداد قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «من كان لنا عاملًا فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادمًا، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنًا» (أبو داود).
عبادةٌ وقضاءُ وطر
والزواجٌ في الإسلام عبادةٌ، وقضاء الوطر في ظله قُربى يؤجر المسلم عليها.. يقول النبي ﷺ: «.. وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام؛ أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» [مسلم]، وما من نفقة ينفقها الرجل على أهله إلا أُجر عليها، بل العجيب أن هذه النفقة أعظم أجرًا من نفقة الجهاد وباقي الصدقات، يقول ﷺ: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك» (أحمد).
كهفُ الرجلِ والمرأةِ
إن الزواج هو الكهف الوحيد للرجل والمرأة؛ (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة: 187)، وما عداه محظور؛ لفساده وخطورته على الإنسان الذي كرمه الله على سائر خلقه (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (المؤمنون: 5- 7)، ولذا فإن تكوين الأسرة دينٌ، والحفاظ عليها إيمان، ومكافحة ما يهددها جهاد، ورعاية ثمرتها من أبناء وأحفاد شعيرة من شعائر الله.
والجنسُ أمرٌ طبيعيٌّ في حياة كل إنسان، وتلك هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهو في نفوس الشباب والمراهقين أقوى وأشد إلحاحًا، وإذا كان الشباب قديمًا يبحثون عن الجنس، فإن شباب اليوم يُدفعون دفعًا لممارسته بعدما باتت وسائل الاتصال الحديثة غابة رذيلة، وصار الجنس الصريح ميسرًا للمشاهدة والسماع في كل وقت وحين. والإسلام لا يحرِّم الجنس، بل يسمح به وفق ضوابطه التي وضعها الخالق جلّ وعلا، وإلا تاهت الحدود واختلطت الأنساب، وصار الإنسان أخا الحيوان لا فرق بينهما في الفعل والسلوك.
إغراء الإباحية الإلكترونية
وللأسف؛ أغرت الإباحية العنكبوتية الكثير من شبابنا العربي بالدخول إلى وحلها، في ظل غياب الكابح الإيماني والرقابة الذاتية، وفي ظل قصور وسائل الإرشاد الدعوي والضابط المجتمعي، حتى جاءت بعض دول المنطقة ضمن العشر الأُوَل في نسب الدخول على المنصات الإباحية، وما جرّه ذلك من آثار سيئة على هذا الجيل من الجنسين، من تأجيج الشهوات، وإدمان مشاهدة تلك المواد القذرة، واكتساب عادات شاذة بعد تكوين تصورات مشوهة عن العملية الجنسية، وفي الأخير التأثير على كيان الأسرة التي هي وحدة المجتمع ونواة الأمة.
واقعٌ مخيفٌ!
في حين تطالع عنوان هذه المقالة، وهو أمرٌ لا يستغرق ثانية واحدة، هناك (30) مليون شخص حول العالم يزورون المواقع الإباحية التي تزيد على (2.4) مليون موقع، في داخلها (420 مليون) صفحة، بما يعادل (12%) من مساحة الشبكة العنكبوتية، تبلغ نسبة مشاهدة الشباب فيها ما بين (60– 90%)، وتبلغ نسبة ما يحمّلونه من مواد إباحية (35%) من إجمالي المواد المحمّلة عبر الإنترنت عمومًا، وتبلغ عمليات البحث على الشبكة عن الإباحية (68 مليون) عملية في اليوم الواحد، وحتى من لم يبحث عن هذه المواد لا يسلمون منها؛ إذ يتلقى ثلث مستخدمي الشبكة إعلانات إباحية صريحة رغمًا عنهم.
وفي منطقتنا العربية وحسب دراسة للدكتور (رضا عبدالواجد)، الأستاذ بإعلام الأزهر، والباحثة (فاطمة أسيري) حول (مدى استخدام الشباب الخليجي للمواقع الإباحية)؛ فإن (70%) من عينة الدراسة، وهم من الشباب الجامعي، يتعرضون للمضامين الإباحية الإلكترونية، من خلال منصات التواصل الاجتماعي مجتمعة بنسبة (51.4%) ثم موقع اليوتيوب بنسبة (31.2%)، وبيّنت الدراسة أن (31%) فقط من الشباب الخليجي هم من يستخدمون تطبيقات إلكترونية لحجب المواقع الإباحية.
آثار مهلكة
يؤسس التعاطي مع هذه المواد لشخص منزوع الإرادة، مشتت الذهن، يعاني الاكتئاب والعزلة، وربما مزّقته الصراعات الداخلية حتى تفقده المشاعر الحقيقية والقدرة على الاختلاط بالآخرين، ولا يسلم أحدهم من مشكلات صحية كأثر للإثارة التي تؤدى غالبًا إلى احتقان في بعض الأعضاء، وخلل وظيفي أو عدم قدرة على التحكم في البعض الآخر، هذا عدا الأفكار غير السوية التي قد تدفعه إلى الخوض في الممارسات المحرّمة والشاذة للحصول على مزيد من اللذة تقليدًا لما يراه من أفلام صُنعت على غير حقيقة وقدرات الإنسان.
وبالنسبة للفتيات اللاتي ابتُلينَ بهذا الإثم، فيزيد على ذلك ما يصيب إحداهنّ من الشعور بانتقاص أنوثتها وجمالها؛ ما يفقدها الثقة بالنفس والتأثير من ثم على مشروع زواجها فيما بعد، وإن المبالغة في الدخول إلى هذه المنصات والمداومة على مشاهدة محتواها قد يؤدي إلى اندفاع الفتاة نحو انتهاك الأعراف والتقاليد المجتمعية جريًا وراء الشهوة، وما يقابل ذلك من رفض مجتمعي، كما تؤدي الإثارة الدائمة إلى خلل في انتظام الدورة وزيادة آلامها، وربما تعرضت بكارة الفتاة للخطر.
نتائجُ إدمانِ المشاهدةِ
وفي مرحلة لاحقة قد يتطور الأمر إلى حالة من الإدمان، يرافقها غالبًا محاولات للتجريب ومقارفة الزنى، ويصحبه أيضًا سلوك قهري يمكن أن يتسبب في مشكلات جسدية مثل التوتر وقلة النوم والاضطراب العاطفي، وعلى الرغم من علمهم بالعواقب السلبية فإنهم لا يستطيعون التوقف عن هذا السلوك مثلما الحال لدى مدمني الكحول والمخدرات، وقد يُصاب بعضهم بما يشبه الهوس، فربما جازف بمشاهدة تلك الأفلام علنًا في وسائل المواصلات أو حجرات الدراسة، وفي كثير من الأحيان يحتاج مثل هذا الشخص إلى دعم نفسي أو تدخل طبي وسلوكي.
إن المواظبة على مشاهدة الأفلام المخلّة إذا استشرت في المجتمع –لا سمح الله- تجعل هناك قابلية للانهيار الأخلاقي وينغمس المجتمع من ثم في الفجور، ويزيد اضطهاد المرأة والتحرش بها، والحطّ من قيمتها، واستغلال الرجل لها، مثلما يحدث في المجتمع الأوربي؛ حيث يتفنن الرجل في تعريتها وإلباسها الملابس المثيرة للغرائز، ويتفنن في استخدام جسدها بكل الطرق، فهناك الجنس الطبيعي، والمختلط، والقذر، وهناك الشذوذ، والأدوات الصناعية التي تستخدم في الممارسة، إلى جانب الممارسة مع الحيوانات إلخ.
وهذا ما أكدته الدراسة سالفة الذكر؛ إذ أظهرت أن نسبة إدراك الشباب للمخاطر الناجمة عن التعرض للمضامين الإباحية عالية؛ حيث رأى (80.7%) من الشباب الخليجي أن التعرض للمضامين الإباحية قد يسهم في إكسابهم سلوكيات منحرفة (كالعنف أو الشذوذ الجنسي أو اغتصاب الأطفال أو التحرش بالمرأة).
أممٌ أهلكتها الإباحيةُ
لقد أدى عدم الالتزام بالضوابط الإلهية في الأمم والحضارات السابقة إلى انتكاسها ثم انهيارها بعد أن تعرّضت لهزائم مروّعة، وكما كانت مندفعة نحو ممارسة الجنس بلا قيود، اندفعت بالقوة نفسها نحو الانزواء والاختفاء من فوق خريطة الإنسانية. ففي الحضارة اليونانية التي كانت أرقى الحضارات وأكثرها تمدنًا، لمّا تركوا لشهواتهم الحبل على الغارب صارت معابدهم مواخير لممارسة الجنس الشعبي؛ حيث كرس رجال الدين طبقات من النسوة في درجة كهنوتية للقيام بحاجة الرجال وخدمتهم، وكان الرجل يعير امرأته لأي رجل معتدل القوام حسن الطلعة لتحسين النسل، فظهر فيهم الشذوذ، وانتشر انتشارًا كبيرًا حتى قضى على حضارتهم إلى الأبد.
والدول الغربية والأمريكية لا تقل انحطاطًا وسفالة عن مثيلاتها من الحضارات القديمة؛ ولذا فالمتوقع انهيار هذه الحضارة قريبًا بعدما وصل الانحطاط إلى زواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، زواجًا رسميًّا تعترف به الكنائس وقوانين البلاد، وصار أجر المومس في أشهر المدن الأوروبية –كما اشتُهر- أقل من ثمن عنقود عنب، ولم يعد هناك كيان للأسر، ولماذا يتحمّل الشخص مسئوليات الزواج وبإمكانه قضاء وطره وبالشكل الذي يريده وبأسعار توازي وجبة إضافية من وجبات يومه أو ليلته؟!
الزواجُ غايةٌ نبيلةٌ
نعود فنؤكد أن الإسلام شرع الزواج كغاية نبيلة؛ لتلبية غريزة الميل إلى الجنس الآخر؛ وكي لا يتعدى الأفراد في المجتمع حدود فطرتهم، بسلوكهم سبلاً منحرفة، فضلاً عن أنه وعاء للتعارف بين المسلمين وتقوية وشائج القربى والنسب، وإطار للحب السامي والمودة الرائعة، والرحمة بين الأزواج؛ ولذا فإن الشرع يحرّم العزوف عن الزواج والزهد فيه، حتى لو كان بنية التفرغ للعبادة والتقرب إلى الله، لاسيما إذا كان الفرد قادرًا على تكاليفه، وقد حاربت الشريعة الرهبانية والعزوبة لتعارضهما مع فطرة الإنسان واصطدامهما مع غرائزه وميوله، يقول النبي ﷺ: «إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة»، وقال: «من كان موسرًا لأن ينكح ثم لم ينكح فليس مني»، بل اعتبر ﷺ الزواج معينًا على الإيمان والالتزام الديني؛ للحديث المروي عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف دينه، فليتق الله في النصف الباقي» (البيهقي).
وقد أظهرت الدراسة التي أشرنا إليها أن الشباب الخليجي يرى أن أهم الأسباب التي تدفع الفرد للتعرض إلى المواقع الإباحية هو ضعف الوازع الديني، يليه الفضول وحب الاستكشاف، ووجود وقت فراغ طويل، وكثرة انتشارها وسهولة الوصول إليها عبر الهواتف الذكية التي توفر قدرًا من الخصوصية. وأشارت النتائج إلى أن غالبية الشباب الخليجي يعتقد أن الملتزمين دينيًّا لا يتصفحون المواقع الإباحية بنسبة (50.4%)، وعزت ذلك إلى أن الملتزم دينيًّا محصّن بالقيم الدينية والأخلاقية وأن (التدين يعتبر حصنًا للشاب من الدخول لتلك المواقع، وأن تصفح المواقع الإباحية (يتناقض مع السلوك الملتزم).
____________________________
(*) كاتب صحفي وباحث مصري.