إن للمسجد الأقصى المبارك في نفوس المسلمين أهميةً خاصةً ومكانةً عظيمةً، يُكنّون له الودّ الشديد والحب العميق وما ذلك إلا لتفضيل الله إياه، فيما خلق الله، ثم اصطفاه واجتباه (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (القصص: 68)، والله جلّ وعلا طيّب؛ لا يختار من موجوداته تفضيلاً وتشريفاً إلا ما كان شريفاً طيباً مباركاً، خلق السماوات سبعاً فاختار منها أعلاها فجعلها مستقراً لملائكته المكرّمين، ومحطّاً لأرواح عباده الأبرار المقربين، واختصها بالقرب من كرسيّه ومن عرشه، (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون: 14)، وخلق الملائكة فاصطفى منهم رسلاً وسادةً، كجبريل وميكائيل وإسرافيل، وخلق من الماء بَشَراً، فجعله نسباً وصهراً، فاختار منهم نبيين مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً جماً غفيراً، ثم اصطفى منهم رسلاً مبشّرين ومنذرين حجة منه عليهم وعدلاً، وخصّ منهم خمسةً من أولى العزم منّةً منه عليهم وفضلاً، ثم اجتبى من خيار الخيار عاقِبهم وخاتمهم الآخر السابق الذي أمّهم جميعاً بمسجد الأقصى ليلة الإسراء، صلى الله عليه وعلى سائر إخوانه الأنبياء الأصفياء.
فضائل المسجد الأقصى
1- وصف القرآن الكريم في كثير من آياته بيت المقدس ومسجده بالبركة وهي النماء والزيادة في الخيرات والمنح والهبات؛ حيث قال سبحانه وتعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (الإسراء: 1).
وقال تعالى: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 71)، وهذا حكاية عن الخليل إبراهيم عليه السلام في هجرته الأولى إلى بيت المقدس وبلاد الشام.
وقال تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) (الأعراف: 137)، وفي قصة سليمان عليه السلام يقول سبحانه وتعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) (الأنبياء: 81).
وقال تعالى على لسان موسى: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ) (المائدة: 21).
وعند حديث القرآن عن هناءة ورغد عيش أهل سبأ يقول سبحانه: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً) (سبأ: 18)، وهي قرى بيت المقدس كما روى العوفي عن ابن عباس. (تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 497).
2- وصف القرآن أرضها بالرَّبوة ذات الخصوبة وهي أحسن ما يكون فيه النبات، وماءها بالمعين الجاري، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) (المؤمنون: 50)، قال الضحاك وقتادة: وهو بيت المقدس، قال ابن كثير: وهو الأظهر. (تفسير القران العظيم 3/ 233).
3- أنه القبلة التي كان يتوجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون قبل تحويلها إلى الكعبة، حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بعد الهجرة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ثم حُوِّلت، وأشار القرآن إلى ذلك بقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) (البقرة: 143).
4- أنه أرض المنادي من الملائكة نداء الصيحة لاجتماع الخلائق يوم القيامة كما قال سبحانه: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) (ق: 41)، قال قتادة وغيره: كنا نحدَّث أنه ينادي من بيت المقدس من الصخرة، وهي أوسط الأرض. (تفسير الطبري 11/ 429).
قال ابن تيمية رحمه الله: «ودلّت الدلائل المذكورة على أن «ملك النبوة» بالشام والحشر إليها، فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يُحشر الخلق، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام، كما أن مكة أفضل من بيت المقدس، فأول الأمة خيرٌ من آخرها، كما أن في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام، كما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. (مجموع فتاوي ابن تيميه 27/ 443).
5- نَعَت الله تعالى المانعين لإقامة الشعائر فيه بأنهم أظلم البشر، وتوعدهم بالخوف عند دخوله، وبحلول الخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الأخرى كما قال سبحانه: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ) (البقرة: 114)، ذكر بعض المفسرين أنها نزلت في بختنصر؛ لأنه كان خرّب بيت المقدس، وروي عن ابن عباس وعن قتادة قال: «أولئك أعداء الله النصارى حملهم إبغاض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس»، ومعلوم أن هذا التخريب بقي إلى زمان عمر رضي الله عنه (انظر: تفسير القرطبي، ج2، ص 75)، ولكن الآن يعمّ حكمها كل مسجد مُنِعَ الناس من إقامة شعائر الله فيه سواء بالتخريب الحسي كما فعل بختنصر بمعبد بيت المقدس، أو بصدّ الناسكين عنه كما فعلت قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم.
______________________________
المصدر: كتاب «المسجد الأقصى.. وقفات وعبرات».