أبو عبدالله الذهبي (*)
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد:
موعدنا اليوم مع قصة منتشرة في كثير من كتب التاريخ وبالأخص التاريخ الأندلسي، ألا وهي قصة حرق طارق بن زياد لمراكبه بعد عبوره للضفة الأخرى من الأندلس وإلقائه خطبة عصماء على جنوده يحثهم فيها على القتال.
تذكر الروايات التاريخية أن طارقاً لما عبر للضفة الأخرى من الشاطئ الإسباني، ولكي يقطع على جنوده أي تفكير في التراجع أو الارتداد، قام وخطب فيهم خطبته الشهيرة التي يقول في مطلعها: أيا الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو من أمامكم وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام.. إلخ.
والروايات الإسلامية التي تشير إلى حادثة حرق السفن لم ترد -فيما أعلم- إلا في ثلاثة مراجع؛ أحدها: كتاب «الاكتفاء» لابن الكردبوس، والثاني: كتاب «نزهة المشتاق» للشريف الإدريسي، والثالث: كتاب «الروض المعطار» للحميري.
فابن الكردبوس بعد أن يصف المعركة التي خاضها طارق لاحتلال هذا الجبل الذي سمي باسمه، يقول في اختصار شديد: «ثم رحل طارق إلى قرطبة بعد أن أحرق المراكب وقال لأصحابه: قاتلوا أو موتوا» (الاكتفاء لابن الكردبوس، ص 46 – 47).
أما الإدريسي فإنه يقول في شيء من التفصيل: «وإنما سمي بجبل طارق لأنه طارق بن عبدالله بن ونمو الزناتي، لما جاز بمن معه من البربر وتحصنوا بهذا الجبل، أحس في نفسه أن العرب لا تثق به، فأراد أن يزيح ذلك عنه، فأمر بإحراق المراكب التي جاز بها فتبرأ بذلك عما اتهم به» (نزهة المشتاق، ص 36).
ويكرر صاحب «الروض المعطار» رواية الإدريسي مع اختلاف بسيط ولكنه مهم، فيقول: «وإنما سمي بجبل طارق لأن طارق بن عبدالله لما جاز بالبربر الذين معه، تحصن بهذا الجبل، وقدر أن العرب لا ينزلونه، فأراد أن ينفي عن نفسه التهمة فأمر بإحراق المراكب التي جاز فيها، فتبرأ بذلك مما اتهم به» (الروض المعطار للحميري، ص 75).
ومما يفهم من رواية ابن الكردبوس أن طارقاً أراد بحرق سفنه أن يشحذ همم المقاتلة، أما الإدريسي والحميري فإنه يفهم من كلامهما أن طارقاً أحس بأن العرب لا تثق به، وقدر أنهم قد لا ينزلون معه إلى الجبل، وهذا يعني أن خلافاً وقع بين طارق وجنوده العرب الذين يعملون تحت قيادته، فعمد إلى إغراق سفنه كي يحول دون انسحابهم بها إلى المغرب، فيتخلص بذلك من التهم التي يوجهونها ضده عند القائد الأعلى موسى بن نصير.
وكيفما كان الأمر، فإن جمهور المؤرخين المحدثين يميلون إلى إنكار صحة هذه الرواية من أساسها كحدث تاريخي، غير أن هناك من يؤيد وقوع هذه الحادثة، خصوصاً وأن هناك روايات مشابهة وردت في كتب التاريخ قديماً وحديثاً تشير إلى وقوع أحداث مماثلة.
والآن سأورد أدلة المؤرخين الذين يثبتون القصة، ثم أتبعه بأدلة النافين والترجيح بينهما.
أولاً: أدلة المثبتين للقصة:
1- فمن الأمثلة القديمة التي يستدل بها المثبتون لهذه القصة: موقف أرياط الحبشي الذي عبر البحر إلى اليمن، حيث أحرق سفنه وألقى على جنده خطبة تشبه خطبة طارق في جنوده، وموقف القائد الفارسي وهرز الذي بعثه كسرى مع سيف بن ذي يزن إلى اليمن لتحريرها من الأحباش، وقد أحرق سفنه أيضاً وقال لجنوده كلاماً مشابهاً لكلام طارق. (راجع: الطبري، 2/ 119).
2- ولعل أقرب مثال لذلك هو تلك القصة التي يرويها أبو بكر المالكي من أن فاتح جزيرة صقلية المشهور أسد بن الفرات (ت 212 هـ) أراد هو الآخر حرق مراكبه حينما ثار عليه بعض جنوده وقواده، وطالبوه بالانسحاب من الجزيرة والعودة إلى القيروان. (راجع: كتاب رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وأفريقية وزهادهم ونساكهم وسير من أخبارهم وفضائلهم، 1/ 188 – 189).
3- وهناك قصة مماثلة يقدمها لنا التاريخ الإسباني وبطلها هو القائد أرنان كورتس الذي فتح المكسيك عام 1519، فيروَى أن هذا القائد الإسباني اكتشف مؤامرة دبرها جماعة من قواده للهرب بالسفن إلى إسبانيا، عندئذ أمر كورتس بإنزال الجنود والأمتعة إلى الشاطئ الأمريكي، ثم دس من خرق السفن وأغرقها ليلاً كي يحول دون تنفيذ هذه المؤامرة. (راجع: كتاب في تاريخ المغرب والأندلس لأحمد مختار العبادي، ص 62 – 63).
ثانياً: أدلة النافين للقصة:
1- أن طارقاً بن زياد لا يمكن أن يقطع وسيلة النجاة للعودة، خاصة وأنه في أرض مجهولة ولا يعلم مصيره ولا مصير جنوده.
2- أن طارقاً بن زياد أرسل إلى موسى بن نصير يطلب منه الإمدادات بعد أن عبر وتواجه مع جيش القوط هناك، فأرسل له موسى بن نصير 5 آلاف مقاتل، والسؤال هناك كيف استطاع موسى أن ينقل كل هذه الأعداد إذا كان طارق قد أحرق السفن؟!
3- ويمكن أن يقال أيضاً: وهل تستطيع المصانع الإسلامية أن توفر سفناً تنقل 5 آلاف مقاتل في تلك الفترة الوجيزة، إن كان طارق قد أحرق السفن.
4- ولو قلنا مثلاً: إن تلك السفن التي أحرقها طارق هي مراكب يوليان حاكم سبتة، فبأي سلطة يقدم طارق على إحراق سفن الرجل؟
5- وإن قلنا: إن السفن تخص الدولة الإسلامية، إذاً فكيف لطارق أن يتصرف في أموال الدولة على هواه، بل يجب عليه أن يستأذن الخليفة في هذا الصنيع، ولا يتصرف بنفسه.
6- ثم إن طارقاً وجيشه يقاتلون من أجل عقيدة، وإنهم من ساعة عبورهم جاؤوا مجاهدين مستعدين للشهادة، وطارق متأكد من هذه المعاني.
ثالثاً: الترجيح:
من خلال النظر في أدلة المثبتين والمنكرين للقصة، يتضح لنا ضعف أدلة المثبتين، لأنه ليس كل ما هو مشهور صحيح، بمعنى أنه ليست كل تلك القصص التي استدل بها الفريق الأول صحيحة، وإن اعتقدنا فرضاً بصحة تلك القصص، فلا يعني هذا أن يقدم طارق على حرق سفنه لأنه قد سبقه أناس آخرون بهذه الفعلة.
وإذا نظرنا إلى تعليل المنكرين للقصة نجدها صحيحة تتماشى مع خطط القائد الفاتح، الذي يدرك مدى خطورة إقدامه على فعل كهذا.
وإن دوافع المعاني الإسلامية والهدف الذي جاء الجيش من أجله لأقوى من الاندفاع من أي سبب آخر، وما كان المسلمون يتخلفون عن خوض معركة أو تقديم أنفسهم لإعلاء كلمة الله، والمصادر الأندلسية -لا سيما الأولى- لا تشير إلى قصة حرق السفن التي لا تخلو من علاقة وارتباط بقصة الخطبة.
أما من ناحية الخطبة التي ألقاها طارق على جنوده، فقد وردت في عدة مراجع مثل «تاريخ عبد» لملك بن حبيب (ص 222)، وكتاب «نفح الطيب» للمقري (1/ 225)، وكتاب «الإمامة والسياسية» المنسوب لابن قتيبة (2/ 117)، وكتاب «وفيات الأعيان» لابن خلكان (4/ 404).
أما عامة المراجع الإسلامية فإنها تمر عليها بالصمت التام باستثناء عبارة ابن الكردبوس التي تلخص الخطبة في كلمتين فقط: «قاتلوا أو موتوا».
وقد شك بعض المؤرخين المحدثين في نسبة هذه الخطبة إلى طارق، على اعتبار أنها قطعة أدبية فريدة لا يقدر طارق على صياغتها، كما لا يقدر جنوده على فهمها لأنهم جميعاً -القائد وجنوده- من البربر.
على أن هذا التعليل وإن كان يبدو منطقياً ومعقولاً، إلا أنه لا يمنع من أن طارقاً قد خطب جنده على عادة القواد الفاتحين في مختلف العصور، وإن كنا نعتقد في هذه الحالة أن الخطبة لم تكن باللغة العربية، وإنما كانت باللسان البربري كما يسميه المؤرخون القدامى.
ثم جاء الكتاب العرب بعد ذلك، فنقلوها إلى العربية في شيء كثير من الخيال والإضافة والتغيير على عادتهم.
ومن هذا نرى أنه ليس بعيداً بالمرة أن يكون طارق قد خطب جنوده البربر بلسانهم، إذ إنه من غير المعقول أن يخاطبوا في ساعات الوغى وفي مقام الجد بلغة لم يتعلموها أو يفهموها، فكان استعمال اللسان البربري في هذا الموقف ضرورة لإحراز التأثير المطلوب والفائدة العاجلة.
_______________________________
(*) من كتاب «أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ»، لمؤلفه أبو عبدالله الذهبي.