لم يعد خافياً على أحد ما يمارسه الإعلام بكل وسائله وأدواته من أدوار كبيرة ومؤثرة داخل بنية المجتمعات، حيث بات على رأس مصادر التوعية وبناء الفكر وتكوين العقول، وتشكيل الآراء والاهتمامات وصناعة الميول، ومن ثم فقد أسهم بشكل كبير في التحكم في السلوكيات إيجابًا وسلبًا.
وتأتي قوة تأثير الإعلام مما تملكه وسائله من إبهار وتنوع وتكرار يرتكز على الصوت ويستند إلى الصورة؛ الصورة التي تفوق ألف كلمة بحكم اعتمادها على الإدراك البصري المباشر وطبيعتها الاختزالية، فالكلمة وحدها تتطلب مهارات القراءة لإدراك معناها، بينما بإمكان الصورة أن تصل إلى القارئ والأمي بما لديها من قدرة فائقة على التأثير.
ولهذا، سعت الدول الكبرى التي ضمنت لنفسها مكانة مرموقة إلى الاعتماد على الإعلام بكافة مشتملاته، لتحقيق أهدافها، وترسيخ القيم التي تنادي بها، وإقناع الشرائح المستهدفة بمضامينها بما تتكئ عليه من نظريات وعمليات متقنة في غسيل الأدمغة، وتوجيه العقل الجمعي، وذلك لأنها رأت أن الحروب التقليدية باتت باهظة التكلفة، بينما الإعلام ووسائله قادر على الوصول إلى الغرض بأقل التكاليف.
كنت أقرأ قبل فترة عن الشخصية السوفييتية الخطيرة يوري بيزمينوف، العميل السري الذي كان يعمل في وكالة الاستخبارات الروسية (KGB)، ذلك الرجل الذي لم يرق له أسلوب الاستخبارات في مضايقة الشعوب، فهرب من روسيا إلى أمريكا ومنها إلى كندا، وهناك غيَّر اسمه إلى توماس شومان، وشرع في تثقيف الشعوب بما يحاك لها من مؤامرات.
من ضمن ما قاله الرجل: إنّ زمن الحروب العسكرية لإخضاع الدول قد انتهى كأولوية، فالانتصار الآن يتم تحقيقه من خلال أربع مراحل، سأكتفي هنا بالتلميح عن الخطوة الأولى والمتمثلة في «إسقاط الأخلاق» (Demoralization)، وهي مرحلة تحتاج من 15 إلى 20 عاماً، لتدمير منظومة الأخلاق والقيم لدى المجتمع المستهدَف، وما يفشل الجهود الرامية لتدمير القيم محاولات إعادة المجتمعات لقيمها الدينية، باعتبار أن الدين هو الحاكم المسيطر على علاقات الأفراد داخل المجتمع ويجعلهم متناغمين بطريقة سلسة حتى في أكثر الأيام شدة وصعوبة!
لماذا من 15 إلى 20 سنة لتدمير منظومة القيم؟
لأن هذه المدة طبقاً لمعامل علم النفس هي الكفيلة بتنشئة وتعليم جيل واحد من النشء على القيم البديلة والأخلاق المراد نشرها في المجتمع!
والقيم الوليدة التي سوف تحل محل القيم القديمة تعتمد في نشرها على رموز مجتمعية ومؤسسات بديلة تحظى باهتمام الناس لتستطيع صرف انتباههم عن الإيمان الحقيقي وجذبهم لأنواع من العقائد الدخيلة.
وللتخديم على هذه الخطوة المتمثلة في تدمير منظومة القيم ينبغي إفساد التعليم، والعبث بالنسق الاجتماعي من خلال صناعة منظمات وهمية تستهدف بالأساس نزع الإحساس بالمسؤولية لدى المجتمع، وإضعاف الحس الوطني والولاء للوطن، مشيراً إلى أن ذلك يتم من خلال أدوات ورموز إعلامية تجد دعماً غير محدود.
اللافت أن تأثير الإعلام في منظومة القيم في ازدياد وتسارع؛ لأن الإعلام اليوم يتميز بالتفاعلية والقدرة العالية على استيعاب المضامين وتنسيقها ومعالجتها وتخزينها ومن ثم استدعائها في أي وقت، بخلاف إعلام الأمس الذي يعد أقل انفتاحاً وأكثر احتكاراً، وتتدفق فيه المعلومات من مركز واحد إلى الشرائح المستهدفة؛ فمضامين الإعلام بشكله الحالي ذات تأثير أقوى وأعمق نظراً لتخطيها حاجز الزمان والمكان مع السرعة الفائقة، وأيضاً لتنوعها وجاذبيتها وما تملكه من خواص تفاعليه، عدا عن أن تفاعل الجمهور معها يتم بطريقة اختيارية.
وتأثير الإعلام على منظومة القيم يبدأ من تغيير نمط الأفراد فضلاً عن الجماعات، حيث أسهمت الوسائل الإعلامية المبتكرة في إيجاد مجتمعات افتراضية ذائبة في ثقافات عابرة للقارات تنهش في الهوية الأصلية، فيبدو الشخص متشرذماً على مستوى الثقافة والأفكار ومضطرب الهوية.
والمثال الواضح على ذلك، تعثر التعبير باللغة العربية على مواقع التواصل الاجتماعي، وظهور ما يعرف بـ«لغة الفرنكو» بين الشباب العربي، وهي لغة يتم فيها كتابة الحروف العربية بالحروف الإنجليزية مع استخدام بعض الأرقام للتدليل على حروف معينة في اللغة العربية.
لا شك أننا نعيش اليوم واقعاً برزت فيه وسائل الإعلام وعلى رأسها السينما والتلفاز وفرضت نفسها بقوة، وقامت مقام المؤرخ، فصناع العمل السينمائي أو الدرامي بإمكانهم خلق التاريخ وتقديم الأحداث بشكل مشوّه بالحذف والإضافة والتركيب معتمدين على ضعف الوعي، وضعف كفاءة العقل الجمعي في التذكر والربط والتوصيف والتحليل والاستنتاج، ما يسمح لهم بتبديل الوقائع التاريخية خدمة لأجندتهم.
ولأن الغرب اليوم هو الذي يتحكم في منظومة الإعلام والتربع على عرش صناعة السينما، فقد عمدوا إلى تشويه حضارة العرب والمسلمين في كثير من أفلام هوليوود، ولهذا أصبح العربي أو المسلم في نظر كثير من شعوب الغرب اسماً مرادفاً للإرهاب والتخلف، وما العرب والمسلمون إلا عبء ثقيل على الإنسانية لا مساهمة حقيقة لهم في ابتكار العلوم والمعارف حتى في التاريخ البعيد.
في المقابل، لم يبذل العرب والمسلمين جهداً في صد هذه الهجمات وتقديم صورة تستحضر بطولات التاريخ، ومساهمتهم في تطوير كثير من العلوم، وجهود القدامى في كافة مجالات الحياة، وبدا أكثر العرب والمسلمين أسرى ما يقدم لهم، منفعلين في الغالب بالأحداث الرومانسية والتراجيدية في الدراما لا سيما التي تعرض في شهر رمضان المبارك.
والملاحظ أن العمل الدرامي في السنوات الأخيرة فيه استعلاء واضح على الأعراف والتقاليد والموروث الثقافي، الأمر الذي أسهم في تحلل المجتمع على نحو غير مسبوق.
ففي السابق، كانت الأسر تجتمع على أعمال درامية، وإن لم تؤكد قيماً اجتماعية راسخة، فهي في حدها الأدنى لا تخدش في قيم مستقرة، ترفه تلك الأعمال في مجملها عن الأسرة الكادحة، عندما يجتمع الكل حول الشاشة الفضية قبل ظهور أجهزة الهاتف الذكية.
قبل سنوات قليلة كنت أرى الشر كل الشر في مشاهدة المسلسلات الهندية والتركية والكورية، التي غزت كثيراً من البيوت، حاملة معها ثقافات عابرة للحدود، تنتقد الدين، وتغذي الخلاعة والمجون من خلال المصادفات الفارغة التي تستخف بالعقول، وتؤكد الخيانات الزوجية في قالب درامي تتشربه النفس، وتميل إليه العاطفة، متكئة على اللف والدوران والإطالة في غير محلها بما يجعل القيم السلبية تتسرب إلى النفس خلسة في غياب للعقل أو عبر استغفاله!
لكني من خلال بعض مشاهداتي وقراءاتي لبعض النقاد لتلك الدراما المصرية والعربية، أجزم أنها أكثر شراً وخبثاً من تلك التي تأتينا من الهند وكوريا وغيرها.
فما فائدة أن يجلس المشاهد العربي شهوراً يتابع مسلسلاً؟! الإجابة التي يقدمها لسؤال واحد مفاده: كيف تنجح امرأة أن تسرق زوج صديقتها المقربة في قالب درامي مصحوب بموسيقى تصويرية تخترق الوجدان فيتعاطف معها المشاهد!
لا إشكالية على الإطلاق في التسلية عن النفس، غير أن استقبال الرسائل المسمومة من الأعمال الدرامية يولد مشكلات أخرى تتفاعل مع المشكلات الموجودة سلفاً على نحو يجعل أي تقدم اجتماعي، وأخلاقي، وحضاري ضرباً من المستحيلات.
مقال ممتع ويفتح المجال لنقاش واسع عن كيفية التواصل بين مجتمعاتنا واستغلال قدرة الإعلام على التوجيه والتأثير في نشر ثقافة متطورة ومستوحاة من قيمنا وايجاد بديل ارقى وارحب واكثر انسانية مما يسود الان