أسهم التطور التكنولوجي في تيسير عملية التعلم والوصول إلى المعرفة، ذلك أن الراغبين في الاستزادة من المعرفة وجدوا المجال متسعاً للإفادة من المزايا التي أتاحتها الثورة التكنولوجية، وأصبح بإمكانهم التوفيق بين انشغالاتهم الحياتية والوظيفية ورغبتهم في تحصيل المعرفة بسبب المرونة الكبيرة التي تتمتع بها المنصات التعليمية التي تقدم المعارف المختلفة على شبكة الإنترنت.
وقد تنبه الإسلاميون منذ بدايات الألفية الثالثة إلى الإمكانات الكبيرة التي تتيحها الشبكة الدولية كتوفير المصادر المقروءة أو المسموعة، وخلق بيئة علمية تسمح بالتواصل المباشر بين أهل التخصص وبين الدارسين، وعلى هذا ظهر عدد من المواقع الإلكترونية الإسلامية الرائدة، مثل: «ملتقى أهل التفسير» (2002)، و«المكتبة الشاملة» (2005)، وموقع «الألوكة» (2006) ثم «المكتبة الوقفية» (2009)، وقد صارت هذه المواقع مقصداً للباحثين من جهة وللراغبين في تعلم العلم الشرعي من غير المختصين من جهة أخرى، ويبدو أن الإقبال عليها كان كبيراً؛ لأن بعض المواقع اتجه -في مرحلة تالية- إلى إنشاء منصات تعليمية اضطلعت بمهمة تقديم مقررات ومناهج شرعية للراغبين في تلقي علوم الشريعة يؤطرها خبراء ومتخصصون من مختلف التخصصات العلمية.
التعليم المفتوح وخصائصه
يندرج هذا النوع من التعليم تحت مسمى «التعليم المفتوح»، وهو تعليم حديث غير تقليدي، يقوم على فكرة إتاحة التعليم لجميع الناس دون قيود نظامية؛ لذا يطلق عليه «ديمقراطية التعليم»، ويتسم بالمرونة من حيث شروط القبول وطريقة التدريس والزمان والمكان تبعاً لاحتياجات وظروف الدارسين، وعلى هذا يمكن الإشارة إلى بعض المعالم الأساسية التي يتضمنها مفهوم التعليم المفتوح، وهي:
– الذاتية؛ فهو تعليم ذاتي يمارسه الدارس بوازع ذاتي بغرض تطوير قدراته أو توسيع مداركه في حقول معرفية معينة.
– الافتراضية؛ فهو يتم خارج قاعات الدرس التقليدية ودون تواصل مباشر بين العالم والدارس.
– المرونة؛ فهو أسلوب يتم من خلاله اختيار الوقت والمكان الملائمين للدارس.
– الحرية؛ وتعني أن الدارس حر في اختيار التخصص الذي يريد، والعالِم الذي يتلقى عنه العلم، كما يحق له اختيار الكتاب الذي يود دراسته في معظم الأحيان.
– إسقاط الحواجز؛ ويقصد به عدم اشتراطه عمراً معيناً للدارس أو جنساً بعينه أو حتى خلفية تعليمية محددة، وهو بهذا المعنى يفتح المجال أمام كثير من النساء لتحصيل العلم الشرعي دون خشية من الاختلاط، وبما يتوافق مع ظروفهن المعيشية.
نماذج من المنصات الشرعية
تتنوع منصات التعليم الشرعي، فكل منصة تنشأ يكون لها أهدافها الخاصّة، وغاياتها التي تخدم أفكارها ورسالتها، فهناك منصات تقصد قصدًا واضحًا لإكساب جمهورها نوعًا من الثقافة العامة والمتنوعة غير المرتبطة بمجال محدد، وهذه التي يمكن أن نطلق عليها المنصات العامة، وهناك منصات تنهض بالأساس لخدمة المتخصصين في مجال محدد، بغض النظر عن طبيعة الخدمات التي تقدمها لهم وهذه يطلق عليها المنصات المتخصصة، وفيما يلي نقدم نماذج لكلا النوعين:
– منصة «زادي»:
وهي كما تعرّف نفسها أول منصة شرعية تعتمد في تقديم موادها على نظام «الدورات المفتوحة واسعة الالتحاق»، والمعبر عنه اختصارًا بـ«MOOCs»، وذلك بغرض تقريب المعارف الشرعيةِ للراغبين، من خلالِ: مساقات تعليمية، وحقائب علمية، وبرامج تعليمية متخصصة، وهي تتميز بأنها تقدم مجموعة واسعة من الدورات التعليمية لا تقتصر على العلوم الشرعية وإنما تمتد إلى موضوعات حيوية مثل: تربية الأبناء، وقيادة الحياة الأسرية والمعاملات المالية المعاصرة، وأخلاقيات العمل الوظيفي.
– أكاديمية «زاد»:
وهي منصة تعليمية على الشبكة الدولية تنفرد بين المنصات الأخرى بامتلاكها فضائية تلفزيونية، وهي منصة عمومية تقدم أساسيات العلم الشرعي وما لا يسع المسلم جهله منها، وتستهدف من وراء ذلك «إيصال العلم والمحتوى الشرعي الوسطي إلى أكبر عدد ممكن من الناس»، وسد حاجة طلبة العلم المبتدئين للمنهج العلمي المؤصل وتجاوز العقبات التي تقابل كثيراً ممن حرموا من تحصيل العلم بالطريقة النظامية، بإيصال العلم إليهم في أماكنهم.
وتعتمد الأكاديمية برنامجاً علمياً مدته 3 أشهر يتضمن 7 مقررات دراسية، هي: العقيدة، التفسير، الحديث، الفقه، السيرة، اللغة العربية، التربية الإسلامية، ويدرس الدارس المشارك في البرنامج 5 أيام أسبوعية لمدة 3 أشهر متواصلة يُجرى فيها اختبارات تفاعلية أسبوعية، ثم يعقد اختبار تفاعلي نهائي ينال بعدها إفادة أنه اجتاز الاختبارات المقررة إذ كان حاصلاً على 60% أو ما يزيد.
– منصة «تراث»:
وهي منصة شرعية إلكترونية كويتية تأسست أوائل العام الماضي، واهتمامها ينصب على تعليم المواد الشرعية المتنوعة (التفسير، العقيدة، الفقه، الحديث، التزكية، والرقائق النحو)، وهي تقدم منهجاً متدرجاً يشتمل على 10 مستويات بحيث يضم كل مستوى مقررين دراسيين أو ثلاثة يقوم بتدريسها علماء متخصصون.
تعتمد المنصة على إستراتيجية التعلم الإلكتروني الذاتي بطريقة ميسرة تتناسب مع غير المتخصصين في العلم الشرعي، كما تطرح المنصة برامج تدريبية متنوعة تهدف إلى توعية الأسرة المسلمة وتنمية مهارات الشباب وترسيخ مبدأ وسطية الإسلام، وتقدم المنصة مقرأة إلكترونية تزامنية لتحفيظ القرآن الكريم وتصحيح التلاوة بشكل مستمر، ويميز المنصة اهتمامها بالدارسين فهي تقدم هدايا للمتفوقين، كما يتم متابعة الدارسين بشكل دوري.
– أكاديمية «نماء»:
وهي منصة مخصصة للباحثين دون سواهم، ولذا يمكن وصفها بالتخصصية، رغم أنها لا تكرس جهودها لخدمة علم بعينه، وهي تابعة لمركز نماء للبحوث والدراسات الذي تأسس عام 2010، ويهدف برنامج الأكاديمية إلى تكوين الطلبة والباحثين في مستوى التعليم العالي الحاصلين على البكالوريوس (أو الإجازة وما يعادلها) عن طريق تقديم نظامين تكوينيين في العلوم الإسلامية والإنسانية؛ الأول نظام المقررات الدراسية الذي يسمح للدارس أن يختار بين مقرر أو أكثر من المقررات التعليمية المختلفة في العلوم الإسلامية أو الإنسانية، والثاني نظام الدبلومات الدراسية وهناك 8 دبلومات من بينها؛ دبلوم العلوم الإسلامية، ودبلوم العلوم الإنسانية، ودبلوم اللغة والترجمة والاتصال، ودبلوم الفلسفة والمنطق.
وعليه، يحقق برنامج الأكاديمية مبدأ التكامل المعرفي مما يمكن الدارسين من التعمق في هذه التخصصات، واكتساب أدوات التعامل مع التراث الإسلامي والغربي معاً.
– أكاديمية «تفسير»:
مؤسسة تعليمية لـ«التعليم عن بُعد»، وهي تابعة لمركز تفسير للدراسات القرآنية ومقره الرياض، وتعنى الأكاديمية بتعليم تفسير القرآن وعلومه في برامج تعليمية، ويتكون برنامجها العلمي الأساسي من 8 مقررات دراسية تشتمل على المباحث الأساسية في علوم القرآن والتفسير والقراءات التي لا غنى لطالب الدراسات القرآنية عن معرفتها، ومدة البرنامج 8 أشهر يمنح الدارس في نهايتها شهادة تفيد اجتيازه البرنامج، وتحظى الأكاديمية بسمعة طيبة وإقبال واسع من طلاب العلم على مستوى العالم؛ إذ اجتذب برنامجها الأساسي 23317 دارساً من 115 دولة حول العالم.
وفي الأخير، يمكن القول: إن هذه المنصات التعليمية وغيرها استطاعت تقريب علوم الشريعة إلى الراغبين، وأفلحت في سد فراغ كبير في هذا المجال بفضل ما تميزت به من مرونة، وما وفرته من بيئة ملائمة للنساء تجنبهن الاختلاط، وإتاحتها فرص التعلم مجاناً أو بمبالغ ضئيلة.