مثَّل الفن أحد المجالات الرئيسة التي أبدع المسلمون في تقديم إسهامهم الحضاري من خلاله، فكما توسعت حدود الدولة الإسلامية وضمت في رحابها شعوباً وأمماً جديدة، توسع الاستيعاب والهضم الإسلامي لتلك الشعوب والأمم امتثالاً للأمر القرآني: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات: 13)، فتعرف المسلمون على ثقافات شتى من الهند شرقاً حتى الأندلس غرباً، والتحموا بحضارات سابقة شيدت تجارب فنية متفردة، وتمكنوا من صهر تلك الفنون والعلوم والثقافات في قالب إسلامي جديد لم ينقطع عن تراث السابقين، لكنه أضاف إليه طابعه المميز، ليَنتُج عن ذلك المخاض فن إسلامي من طراز متفرد شيد لنفسه مكانة خالدة فيما بين فنون الأمم والحضارات عبر التاريخ الإنساني الطويل.
واعترافاً بمكانة ذلك الفن وتفرده، أعلن المؤتمر العام لمنظمة «يونسكو»، خلال دورته الأربعين عام 2019م، عن «اليوم العالمي للفن الإسلامي»، وذلك في 18 نوفمبر من كل عام، حيث يتم تخصيص ذلك اليوم اعترفاً بإسهام الفن الإسلامي في الحضارة الإنسانية، وعرفاناً بالدور المحوري الذي مارسه هذا الفن في حفظ تراث الأمم السابقة، ونقله إلى الحضارات التالية، وإضافته المتفردة في التعبير عن الروح الإسلامية وإثراء التنوع الفني العالمي.
الرؤية الإسلامية للفن
وقد تنوعت الإسهامات الحضارية الإسلامية في أشكال مختلفة من الفنون، ومنها الفنون السمعية كالشعر والخطابة، والفنون البصرية كالخط العربي والعمارة والزخرفة، والفنون التطبيقية كالخزف والحلي والسجاد والنسيج، فالإسلام الذي جاء ديناً شاملاً ينظم حياة الإنسان المسلم في سائر أنحائها قدم فناً شاملاً منبعثاً في الحياة اليومية للمسلمين، إذ وجد هذا الفن طريقه لدقائق التفاصيل العادية للناس، كالأبواب والنوافذ والأرضيات والأسقف والشوارع والزوايا وحتى سُبل الماء والتكايا وغيرها، بل وفي يد كل إنسان مسلم حيث يتصفح مصحفه مزخرفاً بزينة الخط العربي، فأينما يولي الإنسان وجهة يجد لوناً من ألوان الفنون تزين الأشياء وتضفي عليها جمالاً خاصاً.
ونتيجة للروح الإسلامية المنفتحة على الآخرين، تمكن الفنان المسلم من استيعاب الفنون المتنوعة للأمم السابقة كالروم والفرس والترك وغيرهم، مع الحفاظ على هويته الإسلامية الجديدة التي نحت منحى توحيدياً خالصاً، وتنزهت عن التجسيم والتمثيل؛ فرفضت من التراث الفني للأمم السابقة التماثيل وكافة أشكال التصوير للإنسان والحيوان والطبيعة، وسعت بديلاً عن ذلك عن تأسيس فن جديد يراعي قواعد الإسلام ولا يرفض جماليات الفن في المطلق، بل يرتقي بذلك الفن من التجسيد المادي المباشر للطبيعة إلى التعبير الروحاني الرمزي عن الجمال في جوهره.
وانطلقت الرؤية الإسلامية للفن من ركيزتين رئيستين؛ الأولى: عملية واقعية تسخر الفن لخدمة الحياة الإنسانية والدين الإسلامي، وتعمل على تحقيق الفائدة بأيسر الطرق وأكثرها ابتكاراً وفناً، والثانية: جمالية؛ حيث يعمل الفن في تلك الحالة على تزكية إحساس الإنسان بالجمال والزينة؛ (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) (الأعراف: 32)، فانعكست كلتا الركيزتين في سائر الفنون الإسلامية التي سعت إلى إيصال رسالة جمالية بالإضافة إلى تحقيق الغرض العملي لخدمة الحياة الإنسانية.
الدين والفن.. بين القطيعة والالتقاء
ورغم سيادة المقارنات التي تقطع بانفصال وتنافر الدين والفن باعتبارهما ضدين متنافرين، إذا حضر أحدهما غاب الآخر، فإن المتأمل لطبيعة الدين والفن يجدهما نابعين من الوعاء نفسه، وعاء الروح الإنسانية، فالدين والفن كلاهما يخاطب الروح، ويعزز تزكية الأنفس وإرهاف الحس والارتقاء بأخلاق الإنسان ومشاعره لكي يكون قادراً على رؤية الجمال في الكون والإعجاز الإلهي في تصوير المخلوقات، وإدراك الخير بحس مرهف وبصيرة نافذة وحواس واعية.
ويخبرنا التاريخ البشري بارتباط جلي بين الدين والفن، ممثلاً فيما خلفته الحضارات الإنسانية على تنوعها واختلافها من آثار فنية وجمالية ومعمارية تمت بوازع ديني خالص، مثل الأهرامات والمعابد والرسوم والزخارف والكنائس والمساجد وغيرها، حيث أبدع الفنان في كل حضارة في التعبير عن إيمانه بشتى الصور الفنية الجمالية النابعة من إيمانه الديني وإدراكه الحسي بالكون والإله.
وعن تلك العلاقة التوافقية بين الفن والدين، يقول علي عزت بيجوفيتش: إنهما يخدمان قضية واحدة «قضية الإلهام الإنساني مُعبر عنها بطرق مختلفة، فالدين يؤكد الخلود والمطلق، وتؤكد الأخلاق الخير والحرية، ويؤكد الفن الإنسان والخلق، وهي كلها في أساسها نواحٍ مختلفة لحقيقة جوانية واحدة عُبر عنها بلغة قد تكون وسيلة قاصرة في التعبير، ولكنها الوسيلة الوحيدة المتاحة».
تاريخ الفن الإسلامي
وفي التاريخ الإسلامي، برزت الحاجة إلى الفن فيما بعد فترة الخلفاء الراشدين، التي غلب عليها تجنب الترف والبذخ، ثم حين تولى الأمويون السلطة بدأت مرحلة الالتجاء إلى الفن لتشييد مساجد تنافس كنائس المسيحيين ومعمارها، ولاتخاذ الخلافة الجديدة شكلاً حضارياً يضفي عليها العظمة والترف بما يوائم اتساع الدولة الجديدة وقوتها، فكان قرار الدولة الأموية بالاعتماد على فنانين من خلفيات حضارية متنوعة تتلمذ على أيديهم مجموعة من الفنانين العرب، لينشأ إثر ذلك الطراز الإسلامي الأموي في الفن الذي انتقل إلى سائر أنحاء الدولة الأموية شرقاً وغرباً، بل وتمكن ذلك الفن من الصمود لقرون في الأندلس غرباً رغم سقوط الدولة الأموية في الشرق.
وإثر سقوط الدولة الأموية عام 750م، انتقلت الخلافة إلى الدولة العباسية التي اتخذت من بغداد مقراً للخلافة بديلاً عن الشام، مما نتج عنه تغيير جوهري في طراز الفن الإسلامي في العمارة والزخرفة، وغلبت الأساليب الفنية الفارسية على الفن الإسلامي.
وبحسب الفترة التاريخية التي ساد خلالها كل فن وكل مدينة أو حضارة نشأ بها يأتي تنوع الفن الإسلامي لينضوي تحت لوائه طيف واسع من الفنون الإسلامية التي تأثرت كل منها بطابع الزمان والمكان التي ظهرت فيه ومن خلاله، فنجد فناً إسلامياً مصرياً وسورياً، وفناً إسلامياً فارسياً إيرانياً، وفناً إسلامياً صينياً وهندياً، فأسهم بذلك الفن في الانفتاح والتسامح فيما بين الحضارات وشجع التنوع والابتكار والإبداع.
الفن في خدمة الدين
ونتيجة للرؤية الإسلامية الخالصة التي تبناها الفن الإسلامي، نجد هذا الفن قد كرس نفسه بالكلية لخدمة الدين، وتفجرت إبداعاته بالأساس نتيجة حاجة إسلامية فرضها الواقع، فعلى سبيل المثال؛ ازدهر فن الخط العربي نتيجة رغبة إسلامية أولية في كتابة القرآن الكريم ثم جمعه في المصاحف، مما حدا بالمسلمين لاستخدام فنون الزخرفة، وابتكروا فن الخط العربي الذي أصبح ملمحاً فنياً رئيساً في سائر الإبداعات الفنية الإسلامية، فزينوا به جدران المساجد والقصور، وأصبح جزءاً لا يتجزأ من الهندسة الجمالية للزخرفة والعمارة الإسلاميتين.
ومن ناحية ثانية، برز إلى الساحة الفنية في الحضارة الإسلامية فن المعمار كأحد أهم أشكال الإبداع الإسلامي في المجال الفني، انطلاقاً من حاجة واقعية لتشييد عمران الحضارة الجديدة على أسس فنية مميزة تنشر الدعوة الإسلامية بطرائق غير تقليدية عبر إرهاف الحس الإنساني لفهم معاني الجمال المتجذرة في ذلك الفن، فانعكست تلك الجماليات الفنية المعمارية في بناء المساجد مثل مسجد قبة الصخرة وبناء المدن الإسلامية وتشييد العواصم بنمط معماري جديد على شكل دائري وفي وسطها مسجد المدينة.
أما في مجال الموسيقى، فقد تمكن كبار فلاسفة الإسلام وأدبائه من التأليف والتصنيف الموسيقي، وابتكروا مجموعة كبيرة من الآلات الموسيقية كالعود العربي والرباب والقانون والزنام وغيرها، ومن أشهر الكتابات التي تخصصت في هذا الشأن كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني، و«علم العروض» للخليل بن أبي أحمد، وكتاب «الموسيقى الكبير» لأبي نصر الفارابي، وموسوعة «إخوان الصفاء» التي خصصت فصولاً مهمة للموسيقى والغناء، ورسائل الفيلسوف العربي أبو إسحاق الكندي في «نظرية الموسيقى».
فقد انطلق اهتمام المسلمين بالموسيقى من تجذر إبداعهم الشعري القائم على التقاسيم والأوزان، ومن رغبة في التغني بالقرآن وتجويد الترتيل، ثم تطور الأمر إلى أن أصبح الغناء والألحان قسماً مهماً من أقسام الاهتمام الإسلامي الفني، فانشغل المسلمون بالتأليف في مجال الإيقاع والأصوات والألحان والمقامات، وقدموا إبداعات جديدة في النغم وعلم الصوت، وأصبح الإسهام بالتأليف والتصنيف في المجال الموسيقي عرفاً فيما بين الفلاسفة والمفكرين المسلمين باعتبار الموسيقى جزءاً لا يتجزأ من الإبداع الفكري للعالِم الموسوعي المسلم، بل لقد أصبحت الموسيقى جزءاً من ثقافة حلقات الذكر لدى الصوفية كوسيلة للجذب وإرهاف الحس الديني والتعبدي للمُريد.
يتبين من ذلك ما أولاه المسلمون من مكانة خاصة ورئيسة للفن في حضارتهم على اختلاف عصورها وتعاقب فصولها، حيث أدرك المسلمون مبكراً قيمة الفن وجمالياته، وما يجمعه بالدين من تحفيز المشاعر وإلهام الحس الجمالي والتأمل في الكون والاستدلال على الصانع المدبر، وعمد المسلمون عبر مراحل متنوعة وفنون مختلفة على تجسيد قيمة الفن الروحانية الجمالية في سائر مناحي الحياة، عبر تبني رؤية إسلامية متفردة للفن تحمل تقديراً لأدواره الإنسانية، وتعمل على تهذيب ما يشوب رسالة الفن من شوائب تكدر صفو جماليته، فأصبح الفن داعماً للحضارة الإسلامية، وسلاحاً في يد الفنان المسلم ينشر به قيم الإسلام ويحقق رسالته في الخير والحق والجمال، وجسراً يعبر به إلى الثقافات الأخرى وفنونها يأخذ منها ويضيف إليها.