الاقتصاد والتعليم مصطلحان مهمان، كل منهما يرتبط بالآخر؛ فالاقتصاد له دوره المحوري في التعليم، وكذلك التعليم له دوره المحوري في الاقتصاد؛ فهما متكاملان، وبهما تتحقق التربية السليمة والتنمية المستدامة، حتى يمكن القول: إن كلاً منهما يمثل دافعاً للآخر، به يزدهر وينطلق ويحقق مستهدفاته؛ فالتعليم الجيد يوفر قوى عاملة متعلمة وماهرة ومنتجة مما يعزز الاقتصاد، وفي الوقت نفسه فالاقتصاد القوي يوفر الموارد المالية اللازمة لتوفير التعليم الجيد.
وحينما ننظر إلى الكون ومقتضيات وجود الإنسان فيه، نجد أن غاية الوجود للإنسان هي العبادة، وهي مظلة جامعة لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، ولا عبادة بدون استخلاف؛ (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، ولا استخلاف بدون عمران؛ (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61)، ولا عمران بدون علم؛ (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) (البقرة: 31)، (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق: 1).
وبهذا، فأساس أي عمران أو تنمية وفق المنهج الاقتصادي الإسلامي هو التعليم؛ فآدم عليه السلام فضَّله الله على الملائكة بالعلم، ونبينا صلى الله عليه وسلم بدأ الوحي إليه بالعلم، والتنمية قوامها الإنسان، الذي هو رأس المال البشري، المسخر له الكون، وتعليمه وتثقيفه هو أساس زيادة إنتاجيته، ومن ثم زيادة الإنتاج، والقدرة على توفير متطلبات العباد من السلع والخدمات، وتحقيق مهمة الاستخلاف في الأرض والعبادة لله خالق الحياة والأحياء.
كلما كانت مخرجات التعليم متوافقة مع حاجات الاقتصاد زاد الإنتاج وقلت البطالة
كما أنه من ناحية أخرى، هناك ارتباط وثيق بين مخرجات نظام التعليم وحاجات الاقتصاد القومي من القوى العاملة، فكلما كانت المخرجات من نظام التعليم متوافقة مع حاجات الاقتصاد، ساهم ذلك في التوظيف والحيلولة دون البطالة، وزيادة الإنتاج.
التعليم الجيد واقتصاد المعرفة
وضعت الأمم المتحدة ضمن خطة التنمية المستدامة للعام 2030م هدف التعليم الجيد؛ لأنها توقن أنه لا تنمية حقيقية يكتب لها الاستدامة بدون تعليم جيد، فالجهل لا يبني إنساناً، والتعليم الجيد هو من يضع الشخص المناسب في المكان المناسب، من حيث تثقيفه وتدريبه وتأهيله بما يتناسب مع قدراته، واستثمار ما يتميز به من مزايا نسبية، وهذا الأمر لا يقتصر على حملة المؤهلات العليا، بل له أهمية كبرى في قطاع التعليم الفني الذي من خلاله يتم التعليم والتدريب وفتح سبل الابتكار والإبداع أيضاً.
وقد برز في عالم اليوم اقتصاد المعرفة، الذي يعد التعليم المحور المركزي والمكون الأساسي في بنائه، ومع ذلك فإن التعليم منذ قرون لم يغب عن الاقتصاديين لإبراز أهميته للاقتصاد، فقد كشف الاقتصادي الإسكتلندي آدم سميث عن أهمية التعليم للاقتصاد وجعله من عناصر رأس المال الثابت، كما اعتبر الاقتصادي الإنجليزي الفريد مارشال التعليم نوعاً من الاستثمار القومي وكشف عن أهميته لتحقيق التنمية الاقتصادية، وحث الدولة على المساهمة في تحمل نفقاته، باعتبار مردود ربحه الاجتماعي، كما ذكر أن أعلى أنواع رأس المال قيمة هو رأس المال الذي يستثمر في الإنسان، إذ عن طريق الإنسان تتقدم الأمم، وحتى كارل ماركس كان يؤمن بأهمية التعليم لزيادة الإنتاجية ومن ثم رفع مستوى المعيشة.
وقد أبرزت أكثر من دراسة غربية العلاقة بين التعليم والنمو الاقتصادي، وكشفت أن التعليم الجيد هو ما يرفع معدلات النمو، وهو سبب رئيس في تقدم الدول المتقدمة.
التعليم بالدول المتقدمة أعلى من مثيله بالنامية بسبب التفاوت في الإنفاق عليه
ففي دراسة لدنيسون عن النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية، توصل إلى أن نحو 10% من النمو الاقتصادي في المدة من عام 1909 إلى 1929م يرجع إلى تحسن مستوى التعليم، وأن نحو 21% من النمو الاقتصادي في المدة من عام 1929 إلى 1957م يرجع إلى تحسن مستوى التعليم، أيضاً، كما توصل دنيسون كذلك إلى أنه من 5 إلى 15% من النمو الاقتصادي في أوروبا في المدة من عام 1950 إلى 1962م ترجع إلى تحسن مستوى التعليم.
كما توصلت دراسة لشولتز إلى أن نحو 20% من النمو الاقتصادي في المدة من عام 1929 إلى 1957م في الولايات المتحدة الأمريكية يرجع إلى تحسن مستوى التعليم.
وفي المقابل، فقد أظهرت العديد من الدراسات عن العلاقة بين التعليم والنمو الاقتصادي في البلدان النامية أن دور التعليم في النمو الاقتصادي كان ثانوياً، مع ملاحظة أن دراسات أخرى كشفت أن الإنفاق الكثيف على التعليم قد يكون سلبياً ويسهم في الإبقاء على التخلف في الدول النامية، نتيجة لتوجيه الإنفاق في غير موضعه من خلال التوسع في التعليم الثانوي العام والتعليم العالي، مما يتكدس معه الخارجون لأسواق العمل لعدم حاجة الأسواق إلى تخصصاتهم.
اقتصاديات التعليم
وإذا كان هذا هو تأثر الاقتصاد بالتعليم، فإنه في المقابل يتأثر التعليم بالاقتصاد، وقد برز مصطلح اقتصاديات أو اقتصاد التعليم (Economics of education) كفرع من فروع علم الاقتصاد، موضوعه التركيز على العملية التعليمية بما تتضمنه من تعليم وتدريب في جميع المراحل، ومنها تعليم وتدريب الكبار، وكذلك تدريب العاملين في أثناء الخدمة، وتعليم وتدريب وتأهيل العاطلين الباحثين عن عمل لتمكينهم اقتصادياً، إضافة إلى دراسة عوائد وتكاليف التعليم سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الاقتصاد القومي.
إن العملية التعليمية تتكون من معلمين وطلاب ومناهج ومبانٍ وأدوات تعليمية، وكل هذا له تكاليفه التي يوفرها الاقتصاد الجيد لتكون بصورة جيدة، فمستوى الإنفاق على التعليم له علاقة طردية بمستوى التعليم ذاته، ومن الملاحظ أن مستوى التعليم في الدول المتقدمة أعلى من مثيله في الدول النامية، ويرجع ذلك بصفة رئيسة إلى المخصصات التي توفرها تلك الدول المتقدمة للإنفاق على التعليم، في حين موازنة التعليم في الدول النامية ومنها الدول العربية متواضعة.
على الدول العربية إيلاء أولوية للتعليم في موازناتها والتركيز على المهارات التكنولوجية
حيث يشير التقرير الاقتصادي العربي الموحد، الصادر عن مؤسسة النقد العربي، إلى أن متوسط نسبة الإنفاق على التعليم إلى الدخل القومي الإجمالي في الدول العربية في عام 2020م حوالي 3.5%، وهو ما يقل عن مثيليه في الدول النامية (4.4%)، ودول العالم ككل (4.6%)، وفيما يتعلق بنسبة الإنفاق على التعليم من الإنفاق العام الإجمالي، بلغ المتوسط العربي في عام 2020م حوالي 11.3%، وهو ما يقل عن مثيليه في كل من الدول النامية (15.6%)، ودول العالم مجتمعة (14.3%).
وهذا يحتم على الدول العربية إيلاء أولوية للتعليم والبحث العلمي في موازناتها، والاهتمام بالعملية التعليمية؛ مدرساً وطلاباً ومنهجاً ومباني وأدوات تعليمية، وربط التعليم بسوق العمل، وإيواء أولوية للإنفاق على البحث العلمي والابتكار، وإقرار رواتب للمدرسين وأساتذة الجامعات بصورة تغنيهم وتصون كرامتهم وحياتهم، والتركيز على تعليم ريادة الأعمال والمهارات التكنولوجية والمهنية، التي تفرض نفسها في واقعنا المعاصر، وصقل ذلك بالتدريب، مع التركيز على منظومة القيم الإسلامية، فلا تنمية مستدامة حقيقية إلا بتربية إيمانية (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) (الأعراف: 96).