«البيئة التعليمية حالها لا يسر، وتحتاج إلى تطوير عاجل»، بهذه الكلمات دعا استشاريون في مجال التطوير التعليمي عبر «المجتمع» المسؤولين إلى ضرورة إصلاح الاختلالات وتجاوز التحديات الموجودة في التعليم العربي.
ويذهب المعنيون بالتربية والتعليم إلى أن مفهوم البيئة التعليمية لا يقتصر على المكان الذي يتلقى فيه الطلاب دروسهم، ولكن يمتد إلى مجموعة من الشروط اللازم توافرها من حيث الأبعاد النفسية والتعليمية والاجتماعية لتحسين بيئة التدريس والتعلم.
د. حسني: لا بد من إعادة النظر قبل أن يتسع الخرق على الراقع
وبحسب دراسة أكاديمية حديثة بعنوان «البيئة التعليمية كأداة لتفعيل جودة التعليم»، صادرة عن جامعة المنصورة الحكومية شمال العاصمة المصرية القاهرة، فإن البيئة التعليمية تعتبر أهم مكونات النظام المدرسي؛ تأثيراً وتأثراً مع باقي مدخلات العملية التعليمية، فضلاً عما تترکه من آثار نفسية على الطلاب والمدرسين، حيث إنها تشارك الآباء ليس في تعليم أبنائهم فقط، بل في تربيتهم أيضاً.
اختلالات متعمقة
في البداية، يرى الأكاديمي المتفرغ بالجامعة العالمية بماليزيا، مدير مؤسسة مؤيد للاستشارات التعليمية والتربوية د. علاء حسني، في حديث لـ«المجتمع»، أن البيئة التعليمية العربية تعاني من كثير من التحديات والاختلالات التي تنعكس سلبياً على المخرجات التعليمية المتمثلة في مستوى الطلاب ومدى سويتهم الشخصية وفاعلياتهم الاجتماعية التي هي رافعة الأمم الحقيقية في صناعة النهضة والتنمية.
ويضيف د. حسني أن من أخطر ما منيت به البيئة التعليمية هو ذلك الخلل الطارئ على منظومة القيم الحاكمة التي يستمد منها التعليم فلسفته الهادية وأطره الموجهة، نتيجة ما شهده العالم من انفجار معرفي، وسماوات مفتوحة، وغزو فكري منظم وغير منظم، وسطوة وسائل التواصل الاجتماعي، فضلاً عن مزاحمة اللغة الأجنبية للغة القومية بما لذلك من آثار بالغة الخطر على الذاتية الحضارية والهوية المميزة، ما يتطلب الإصلاح وإعادة النظر في السياسات قبل أن يتسع الخرق على الراقع.
د. لبيب: الفرصة سانحة لمن يأخذ بزمام المبادرة لتطوير التعليم
ويعرب المستشار التعليمي والتربوي عن أسفه من أن المنظمة التعليمية الرسمية في بعض البلدان، ومنها مصر، لم تتخلص بعد من مشكلاتها البنيوية؛ كتكدس الفصول نتيجة الأعداد المتزايدة من المستحقين للتعليم مع الزيادة السكانية الرهيبة، وضعف الإنفاق على التعليم بوجه عام، وتدني مستوى الخدمات التعليمية، وتراجع مستويات المعلمين، مع غياب فرص التدريب عالية الفعالية؛ مما أدى لازدهار التعليم الموازي الذي كان له من الآثار السلبية ما لا يخفى، الذي أفرز أنصاف المتعلمين.
بيئة متعطشة للتطوير
من جانبه، يوضح مدير الشركة العالمية للتدريب والاستشارات التعليمية الاستشاري د. أحمد لبيب، في حديث لـ«المجتمع»، أنه شارك في تطوير التعليم بأبو ظبي في الإمارات، واطلع على تجارب التطوير في قطر والجزائر، ويعمل حالياً في المساحة المصرية، ويعتقد بناء على ذلك أن البيئة التعليمية في المنطقة العربية متعطشة لمن يأخذ بزمام المبادرة لتطويرها، في خطوط متوازية، خاصة في ظل ما تعاني منه.
ويضيف د. لبيب أن العربي يؤمن بأن التعليم مسألة حياة أو موت، ومن الممكن أن يجوع مقابل أن يستثمر في تعليم أبنائه، والدليل ما يجري في بلد مأزوم ومحتل مثل فلسطين، فأبناؤه على المستويات الفردية يهتمون بالتعليم لأقصى حد، كما اتجه السودانيون الفارون من بلدهم في الأزمة الأخيرة إلى الاستثمار في التعليم المنزلي بمصر، وفق رصده.
ويشدد د. لبيب على أي بيئة تعليمية متعثرة في الوطن العربي يمكن أن تنهض إذا توافرت لها شروط أربعة، هي: وجود إرادة سياسية، ووضوح الهوية، وتطوير منظومة الصحة، وإعلاء العدالة الاجتماعية والحريات، مع مراجعة جداول ترتيب الحالة التعليمية بالعالم الصادرة من الجهات الأممية ودراستها.
فياض: نمو عربي خليجي وصعوبات بمصر تنتظر تفعيل البدائل
ويشير الاستشاري التعليمي إلى أنه لا ينبغي استيراد حقائب تعليمية من دول مثل فنلندا أو الإمارات أو قطر لتطبيقها في دولة أخرى مثل مصر، فكل له أولوياته، ولكن لا بد من الاطلاع فقط على التجارب ثم وضع رؤية إستراتيجية مناسبة للدولة بناء على احتياجاتها وأولوياتها.
نمو عربي خليجي وتحديات مصرية
من جانبه، يرى الخبير التعليمي مدير تحرير صحيفة «أخبار اليوم» بمصر رفعت فياض، في حديثه لـ«المجتمع»، أن التعليم في الوطن العربي شهد في السنوات الأخيرة اتجاهاً نحو الأفضل، وحدث تطور في كثير من دول الخليج العربي مثل قطر والسعودية والإمارات، بسبب قدرتها على الإنفاق عليه، وإتاحة الفرصة للتزاوج بين الجامعات الأجنبية والوطنية؛ ما أدى إلى ارتفاع مستوى التعليم.
ويضيف فياض، وهو كاتب صحفي متخصص في الشأن التعليمي بمصر، أن البيئة التعليمية المصرية تواجه صعوبات على مدى عشرات السنين؛ بسبب الزيادة السكانية، وعدم القدرة على الإنفاق الكامل للنهوض بالعملية التعليمية؛ ما أدى إلى وجود ارتقاء بطيء.
ويصف فياض الوضع التعليمي بمصر بأنه يمتلك عوامل الصعود والنهوض، خاصة بإتاحة الفرص بالتعليم الجامعي بإنشاء الجامعات الأهلية (نمط حكومي بمصروفات)، والسماح للجامعات الأجنبية بالتواجد في العاصمة الإدارية الجديدة، وتفعيل الشراكة مع الجامعات المصرية بشكل متميز، حتى أصبح لدى مصر 16 جامعة أهلية، بجانب 27 جامعة حكومية، و29 جامعة خاصة، و175 معهداً عالياً، و10 جامعات تكنولوجيا لطلاب التعليم الفني.
د. ندير: لا بد من معالجة الفجوة بين التعليم والأجيال الجديدة الصاعدة
ويشير فياض إلى أن البيئة التعليمية قبل الجامعية فيها تحديات كبيرة، تؤثر على نموه المطلوب، حيث يعاني من التكدس والعجز في المعلمين وعدد المدارس المناسبة للنمو السكاني المطرد، لكن وزارة التربية والتعليم المصرية بدأت خطة إستراتيجية تقوم على إيجاد بدائل لمواجهة التحديات بعد تطوير المناهج عبر إشراك المجتمع المدني في العملية التعليمية إنفاقاً وتفاعلاً، مع العمل على إعادة الطالب والمدرس إلى المدرسة ومكافحة التعليم الموازي أو ما يسمى بمصر «الدروس الخصوصية».
الفجوة بين التعليم والأجيال
لكن رئيس الجامعة الفرنسية السابق د. حسن ندير يرى، في حديث لـ«المجتمع»، أن التحدي الأكبر الذي يواجه البيئة التعليمية العربية، وفي القلب منها المصرية، تحدي معالجة الفجوة بين التعليم والأجيال الحالية واهتماماتهم وقدراتهم.
ويوضح ندير أن الوطن العربي يمتلك خامات جيدة من الطلاب، لديها قدرات حقيقية تنتظر بيئة تعليمية ملائمة تتفهم رغباتهم، وتعرف نقاط القوة لديهم، وتعدل من أنماط التدريس، والتفاعل في كل مستويات البيئة التعليمية التي يتأثر بها الطلاب؛ للوصول إلى النجاح في الملف التعليمي، وتخريج أجيال جديدة تمتلك الإمكانات اللازمة للتأثير الإيجابي في المجتمع، من خلال التأثر المرجو من تغيير البيئة التعليمية إلى الأفضل.
ويطالب رئيس جامعة الإسكندرية الأسبق بإعادة النظر سريعاً في البيئة التعليمية الحالية، واستمرار توفيق الأوضاع بشكل علمي مدروس يشارك فيه كل المتخصصين لنقل التعليم العربي والمصري إلى المأمول منه، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأجيال الجديدة.