تزخر مدينة «هرر» في إثيوبيا بإرث تاريخي عتيق ورمزية إسلامية مميزة، فتعلو مبانيها التقليدية ذات الخصوصية في تصميمها مآذن عتيقة، وينسج التعايش فيها خيوط السلام بين مكوناتها، يحيط بها سور عريق ببوابته ذات الرمزية الإسلامية، فمرحبا بك في هرر، وهذه جولتنا في مدينة المآذن والقرآن والسلام.
تعد مدينة هرر التي يعود تاريخها إلى القرن العاشر الميلادي، من أقدم مدن شرق أفريقيا، ونالت في القرن السادس عشر الميلادي شرف عاصمة إحدى الممالك ومركز للدراسات الإسلامية، قبل أن تتحول بعد قرن إلــى إمــارة مســـتقلة، بجانب أنها كانت مركزاً تجارياً لموقعها الإستراتيجي ووجودها على طرق التجارة مع بقية مناطق الحبشة آنذاك، إثيوبيا اليوم.
وبحسب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، تعتبر مدينة هرر (525 كيلومتراً شرق العاصمة أديس أبابا) من المدن المهمة للحضارة الإسلامية، حيث تحتضن 3 مساجد تعود إلى القرن العاشر الهجري.
عدد المساجد بعدد أسماء الله الحسنى.. مدينة هرر قبلة السياحة الإسلامية في #إثيوبيا
تقرير: زاهد الهرري pic.twitter.com/pCPS7T3fLN— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) June 5, 2022
وتُطوَّق المدينة، التي ظلت تحافظ على إرثها وثقافتها الإسلامية، وعلى رأسها المسجد العتيق وسط مبانٍ عتيقة، بسور قديم يحتضن مئات الدور التقليدية وأزقتها الضيقة، حيث لا يزال السور شامخاً بأبوابه الخمسة كرمزية إسلامية، تحكي تاريخاً ثرياً؛ ما جعل من المدينة وأهلها يتباهون بأصالة وعمق تأريخ المدينة ضمن الآثار الإسلامية القديمة في إثيوبيا.
ويقول زاهد زيدان، سفير السياحة في إقليم هرر، في مقابلة مع «المجتمع»: تمتلك إثيوبيا العديد من الآثار الإسلامية والإمكانات السياحية، وعلى رأسها مدينة هرر التاريخية التي تتمتع بهوية عمرانية فريدة من نوعها في المنطقة، وأضاف أن مدينة هرر عرفت بطابعها الإسلامي والعربي وتاريخها الممتد لأكثر من 1000 عام.
وعبر زيدان، سفير السياحة في المدينة، عن فخره واعتزازه بانتمائه لهرر، لافتاً إلى أن مدينة هرر الإثيوبية أدرجت على قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) عام 2006م؛ إثر منح المنظمة مدينة هرر جائزة السلام لعامي 2002 و2003م.
وأرجع زيدان نيل مدينة هرر لجائزة «اليونسكو»، وإدراجها ضمن التراث العالمي غير الملموس، إلى ما تزخر به هرر من الآثار التاريخية ذات الطابع الإسلامي العتيق والمميز، فضلاً عن الدور الطليعي لسكان وإدارة الإقليم في تعزيز قيم السلام والتسامح والتضامن الاجتماعي عبر الحياة اليومية للشعب الهرري.
وهرر التي كانت تعرف قبل ثلاثة قرون باسم مدينة «أبادر»، هي اليوم أحد أهم أقاليم إثيوبيا الـ12 في مجال سياحة الآثار الإسلامية والعربية بفضل تاريخها العريق، فهي حاضرة إقليم يحمل الاسم نفسه، وأصغر أقاليم البلاد مساحة وسكاناً، حيث يبلغ عدد سكانه قرابة 210 آلاف نسمة (من أصل أكثر من 115 مليون نسمة)، وفق تعداد عام 2012م، يعيش أغلبهم في المدينة.
ويعتبر المستكشف البريطاني ريتشارد بورتن أول من دخل مدينة هرر عام 1854م، متنكراً، حيث كانت محرمة على غير المسلمين، قبل أن يسيطر عليها الإمبراطور مينيليك الثاني ويضمها إلى إثيوبيا في العام 1887م، لتبدأ حقبة جديدة، فتحت خلالها هرر أبوابها أمام المسيحيين الإثيوبيين من إثنيات مختلفة، وأصبحت ذات سمعة وريادة في قيم التسامح والسلام تضاف إلى اسمها مدينة السلام والتسامح بجانب شهرتها بمدينة المآذن.
معالم لا تخطئها العين.. السور
والمدينة التي تعددت أسماؤها، يطوقها سور يعرف بـ«جوقال» (Jugal)، ممتداً على طول 3348 متراً، وارتفاع 4 أمتار، على مساحة 48 هكتاراً (الهكتار يساوي 10 آلاف متر مربع)، وقد حافظ على هوية الشعب الهرري، الذي يعيش داخله في وئام وتسامح.
وقال زيدان: إن مدينة هرر تتميز بتخطيط معماري فريد، وهي مدينة محصنة ويحيط بها سور كبير مبنيّ من الحجارة ويعرف بـ«جوغول»، بناه الأمير نورالدين مجاهد في القرن السادس عشر الميلادي، ويشكل السور عنصراً دفاعياً مهماً للمدينة، مدعماً بعدد من الأبراج الدفاعية في المدينة.
وشُيد السور الذي يمثل أبرز المعالم التاريخية للمدينة، بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر الميلادي، واكتمل في عهد الأمير نوري (1559 – 1567م)، تتعدد مداخله عبر 5 بوابات لا تزال شامخة تفتح على المحاور الخمسة المؤدية إلى المدينة.
وترمز هذه الأبواب الخمسة إلى الصلوات الخمس التي يؤديها المسلم يومياً، والبعض يعتبرها ترمز لأركان الإسلام الخمسة، وتحمل أسماء: «السلام»، و«النصر»، و«بدر»، و«الرحمة»، و«البحر الأحمر»، وكان فوقها 24 برجاً للمراقبة لم تعد موجودة، وفق إفادات الباحثين التاريخين بالإقليم.
على أحد أبواب السور توجد عبارة «يا الله النصر»، وداخل السور، وتحديداً على جدران مداخل الأزقة الضيقة، توجد كتابات أخرى تشير إلى ثقافة عربية عريقة نهلت منها المدينة.
ولفت زيدان إلى أن المدينة بها متحف يحتفظ بأقدم المخطوطات في العالم «متحف د. عبدالله الشريف»، يضم مجموعة كبيرة من الموروث الثقافي للشعب الهرري، يعود عمرها للعام 1375م، كتبت بخط الرقة غير المنقط الذي كتب بها القرآن آنذاك.
مبانٍ عتيقة وأزياء فريدة
ما إن تدخل سوق هرر، وتفاصيلها ما بين المدينة الحديثة وتشققات مباني المدينة القديمة، حتى تأخذك التقاليد التاريخية؛ ثقافية ودينية، تحكي عن أصالة هذه المدينة وسكانها بزيهم التقليدي المميز، الذي يعبر عن الثقافة الإسلامية للمدينة، وإن تراجعت الصورة اليوم قليلاً فما عاد السكان الأصليون يُعرفون من بين سكانها الجدد، خاصة الشباب منهم.
وهناك مبنى القنصلية التركية الذي يعود إلى الفترة بين عامي 1875 و1885م، فهو الآخر يمثل أحد المعالم التاريخية، وقد افتتحت تركيا أول قنصلية عامة لها، خلال العهد العثماني، في هرر عام 1912م.
فضلاً عن معالم ستظل جزءاً من تراث وثقافة تحكي عن حرف يدوية أبت أن تندثر مع الزمن، تجليد الكتب بالطريقة التقليدية، وحياكة الفساتين الحريرية، والحدادة، بجانب النسيج والدباغة.
واستعرض زيدان، وهو أيضاً صحفي وباحث إثيوبي، خصائص مدينة هرر التاريخية وتميز شعبها بثقافتهم وتقاليدهم، قائلاً: إن مدينة هرر كان لها نظام تجاري، ومنتجات حرفية مشهورة، وكانت تنظم فيها حفلات دينية وثقافية، مشيراً إلى أن الشعب الهرري له ثقافة وتقاليد مختلفة تطغى عليها الثقافة الإسلامية.
وأضاف أن الملابس التقليدية الشعبية لقومية هرري تقوم بحياكتها النساء، وهذه الملابس تتميز بألوان زاهية عن بقية زي الشعوب والقوميات الأخرى، وتتفرد بطريقة تصميمها.
وقومية هرري هي إحدى القوميات والشعوب الإثيوبية بشرق البلاد، تتميز بأزياء تقليدية شعبية تحمل لمسات عربية وهندية؛ ما يميزها عن القوميات والشعوب الإثيوبية الأخرى التي تجاوزت الـ80 قومية.
وأشار زيدان إلى أن الشعب الهرري ظل محافظاً على ثقافته وتقاليده بتوريث هذه القيم والعادات إلى الأجيال المتلاحقة من خلال الاحتفالات الشعبية والقومية، موضحاً أنه منذ قرون لا تزال احتفالات عيد الفطر في هرر على حالها، وهو جذب آلاف الزوار إلى المدينة؛ للمشاركة في فعاليات موسيقية وغنائية وولائم تدوم ثلاثة أيام.
القرآن منذ الصغر
وتشتهر القومية بطريقة تربية أولادها منذ طفولتهم، إذ تبدأ الأسرة بتحفيظ أبنائها القرآن الكريم ويطلق على هذا الطقس «قرآن غي»، حيث تعطي هذه القومية مكانة خاصة لحفظ وتحفيظ القرآن الكريم.
وإلى جانب إرثها التاريخي الإسلامي، تشتهر هرر أيضاً بأجود أنواع البن الإثيوبي، وتقليد إطعام الضباع من قبل السكان عند أبواب المدينة، حيث يضعون الطعام في طرف عصا قصيرة يمسكونها بالفم ليقترب الضبع كثيراً منهم ويلتقط الطعام.
وعلى الرغم من أنه لا يعرف أصل هذا التقليد تحديداً (إطعام الضباع) فإنه يمثل نقطة جذب سياحية وميزة تتفرد بها تلك المدينة التاريخية.