إن التعليم الفقهي يُعيد تشكيل شخصية المسلم المعاصر وفق محددات إيمانية وفكرية تتسم بالثبات والتفتح، وتنطلق هذه النظرة التربوية من مبدئية رئيسة هي: أن التعليم الفقهي هو المشترك العام لدى العقل المسلم الذي ربما يتعرض لأنواع مختلفة من المناهج والمقررات التعليمية، حسب ما يسلكه في طريقه العلمي والتربوي، إلا أن هذا النوع من التعليم –أي التعليم الفقهي- لا يمكن لمسلم أن يستغني عنه لضرورته الدنيوية والأخروية والحضارية من منطلق كونه مسلمًا.
إن معرفة المسلم تعاليم شريعته بمفهومها الشامل (أحكام وتصورات وقيم ومفاهيم ومقاصد) من الضرورة بمكان كي يوصف المسلم بكونه مسلمًا، وكمقدمة لازمة عن تطبيق تلك التعاليم وما تتضمنه في مجالات الحياة المتعددة، كذلك فإن تلك المعرفة تظهر مسئولياتها (معرفة وتطبيقًا) على مستويين هما: الفردي والمجتمعي، كما تحدد مسئولياتها أمام: الذات، والناس، والله تعالى، فهي معرفة مسئولة.
أما من حيث الحكم الشرعي لمسألة تعلم الأحكام –بمفهومها المحدد- يقول الشافعي : العلم علمان: علم عامة لا يسع بالغًا غير مغلوب على عقله جهله، مثل: الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوا، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا، والقتل والسرقة والخمر، وما كان في معنى هذا، مما كُلف العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عنه ما حرَّم عليهم منه. والثاني: علم ينوب فيه العباد من فروع الفرائض، وما يختص به من الأحكام وغيرها مثل: الجهاد في سبيل الله، الصلاة على الجنازة ودفنها، رد السلام، وهكذا…
أما المراد بعلم المكلَّف فهو: ما كُلف به إمكان علمه به، لا علمه به فعلًا. فمتى بلغ الإنسان عاقلًا قادرًا على أن يعرف الأحكام الشرعية بنفسه أو بسؤال أهل الذكر عنها، عُدَّ عالمًا بما كُلِّف به، ونُفِّذت عليه الأحكام، وأُلزم بآثارها ولا يُقبل منه الاعتذار بجهلها. فلا يُقبَل في دار الإسلام عذر بالجهل بالحكم الشرعي؛ لأنه لو شرَطَ لصحة التكليف عِلمَ المكلف فعلًا بما كُلّف به ما استقام التكليف، واتسع المجال للاعتذار بجهل الأحكام .
وهذا يعني أن على الفرد أن يسعى بكل قدراته وإمكاناته لتحصيل واكتساب هذه المعرفة، ومن ناحية أخرى أنه إذا كان نظام التعليم المعاصر قد استحوذ على مسئولية تعليم الناس؛ فيكون لزامًا على مؤسسات التعليم في الأمة توفير هذه المعرفة للناس بكل الوسائل والطرق المتاحة والمجددة لا تفتر عن ذلك ولا تتخلف.
أما النوع الثاني: فهو علم الخاصة، فهذا ما يعرفه خواص الناس من العلماء والفقهاء، وذلك كفروع الفروض السابقة، وما ينزل بالناس من أحكام وحوادث جزئية، مما ليس فيه نص كتاب ولا سنة، أي تحتمل التأويل والقياس، فيقع فيها التفاوت، والتنازع والاختلاف… وهذا النوع من فروض الكفاية الذي إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الآخرين. وإذا قعدوا عنها جميعهم أثموا جميعًا، وعلى هذا كان واجبًا على الناس في مجموعهم أن تتفقه طائفة منهم في معرفة علم الفقه (العلم بالأحكام الشرعية) حتى يسقط التكليف عن الباقين.
وهذا مستوى آخر من التعليم الفقهي يهتم بتربية المجتهدين، وهو أمر لا يستطيعه فرد ولا فئة صغيرة، بل تكلَّف به مؤسسات التعليم في الأمة بَدءًا من اكتشاف هذا النوع من العقول المؤهَّلة حتى برامج الإعداد والمؤسسات القادرة على إعداد وتربية تلك الفئة؛ لأنه لو لم يتحقق ذلك –ونشاهد جانبًا كبيرًا منه- لانقطع اتصال الإسلام بالحياة لا على المستوى النظري أو التاريخي؛ لكن على المستوى التطبيقي والعملي والحياتي.
يمكن أن نميز –في ضوء ما تقدم– في هذا الإيضاح لمعنى «الفقه»، بين معنيين هما: «التعلم الفقهي» و«التفقه»، فالأول هو نوع من المعرفة التي تُقدَّم للمتعلمين (المكلفين) حيث يدركون ما عليهم من واجبات نحو الله أو الناس، وما لهم من حقوق –تلك التي تتضمنها الأحكام الشرعية-، وهي من باب المعرفة الواجبة واللازمة على المكلَّفين، وتُقدَّم بإحدى الوسائط التعليمية وأبرزها «المعلم» أو «المبلغ والداعية» أو بالمعرفة «المباشرة» عن طريق الاطلاع والقراءة، وما يتطلبه ذلك من صياغة مناهج ومقررات وأدبيات ملائمة، تقوم على إعدادها مؤسسات تربوية مسئولة وواعية، كما ينبغي أن يكون هذا النوع من التعليم متضمَّنًا بصورة مقصودة ومخطط لها في برامج التعليم العام الذي يتوجه له أبناء المجتمع.
أما النوع الثاني «التفقه» فهو اتجاه علمي يقوم به نفر من أبناء الأمة «المجتهدين» ويقومون بالبحث فيه من أجل توليد معرفة جديدة تفيد المجتمع المسلم. من خلال استخدام قواعد علمية وبحثية مرعية في أصول العلم، وهذا يكون على بعض فئات الأمة ممن يستطيعون القيام بذلك حسب قدراتهم وتأهلهم لذلك.
قال ابن عبد البر : «… والذي يلزم الجميع فرضه من ذلك ما لا يسع الإنسان جهله من جملة الفرائض المفترضة عليه نحو الشهادة باللسان والإقرار بالقلب بأن الله وحده لا شريك له، لا شبه له ولا مثل، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، خالق كل شيء وإليه مرجع كل شيء، المحيي المميت الحي الذي لا يموت، والشهادة بأن محمدًا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه حق، وأن البعث بعد الموت للمجازاة بالأعمال، والخلود في الآخرة لأهل السعادة بالإيمان والطاعة في الجنة، ولأهل الشقاوة بالكفر والجحود في السعير حق، وأن القرآن كلام الله وما فيه حق من عند الله يجب الإيمان بجميعه واستعمال مُحكَمِه، وأن الصلوات الخمس فرض، ويلزمه من عِلْمها عِلْم ما لا تتم إلا به من طهارتها وسائر أحكامها، وأن صوم رمضان فرض ويلزمه عِلمُ ما يُفسِد صومه وما لا يتم إلا به، وإن كان ذا مال وقدرة على الحج لزمه فرضًا أن يعرف ما تجب فيه الزكاة ومتى تجب وفي كم تجب، ويلزمه أن يعلم بأن الحج عليه فُرِضَ مرة واحدة في دهره إن استطاع إليه سبيلًا، إلى أشياء يلزمه معرفة جملتها ولا يُعذَر بجهلها نحو تحريم الزنا، والربا، وتحريم الخمر، والخنزير، وأكل الميتة، والأنجاس كلها، والغصب، والرشوة على الحكم، والشهادة بالزور، وأكل أموال الناس بالباطل وبغير طيب من أنفسهم إلا إذا كان شيئًا لا يُتشاحَّ فيه ولا يُرغَب في مثله، وتحريم الظلم كله، وتحريم نكاح الأمهات والأخوات ومن ذكر معهن، وتحريم قتل النفس المؤمنة بغير حق، وما كان مثل هذا كله مما قد نطق الكتاب به وأجمعت الأمة عليه».
في ضوء ذلك نرى أن أبواب التعليم الفقهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام كبرى، هي: فقه العقيدة، وفقه الأخلاق، وفقه العمل. وإن المكلف يتعرض لهذه الأنواع الثلاثة في حياته، وبرغم ما بينها من اختلاف من حيث الشروط والأداء والاستحقاق. فإنها في الوقت ذاته تتفق جميعًا في شروط البلوغ والعقل والإسلام، وقد يختلف الأداء في بعضها عند بعض المكلَّفين عن البعض الآخر، وقد يكون مطلوبًا هيئة في الأداء والاستحقاق عند البعض وليس مطلوبًا عند البعض الآخر. وهذا يجعل من التعرف على هذه الأحكام ومواضعها وشروط أدائها وأشكال الأداء، ضرورة دينية لحياة المسلم أو المكلَّف –بالتعبير الفقهي -. كما أن هذه الثلاثة مطلوبة كمقصد رئيس للتشريعات والأحكام في القرآن وهو بناء الشخصية الإسلامية المتوافقة مع القرآن وأحكام الإسلام ونظامه القيمي.