في تاريخ الأمم التي وقعت تحت الاحتلال، ثم قررت فئة منهم المقاومة، يميل عموم الناس -في الغالب- لاتهامهم بالتهور والحماقة، وكل الأمم التي تحررت كان الشعب منقسماً بين مقاوم، ومُشَجِع دون الانخراط في المقاومة، ومحايد، ومثبط، وعميل.
وفي النهاية لم تتحرر أمة من الأمم بدون مقاومة أيًّا كان نوعها وحجم خسائرها.
ويظل المحتل ظريفاً ولطيفاً ما دام الشعب خانعاص وخاضعاً، ويقبل الضرب على القفا، وراضياً بالقهر واستنزاف ثرواته في خدمة أغراض المحتل، ومع أول حادثة مقاومة تظهر أنياب الاحتلال ويظهر معها الفئات السابق ذكرها.
وقد حدث هذا في الجزائر وفيتنام وحتى فرنسا بعد وقوعها تحت الاحتلال النازي، وتجارب أخرى عديدة.
وفي مصر، بدأ الاحتلال الإنجليزي عام 1882، والحكومة المحلية متحالفة معه، والشعب تحت السيطرة، والاحتلال ينفذ أغراضه دون أن يعكر صفوه أحد، وظل الوضع هكذا لنحو ربع قرن كامل، دون تسجيل أي حالة مقاومة ذات بال، حتى وقعت الواقعة مع حادثة دنشواي عام 1906، التي رد فيها أهالي قرية صغيرة على جريمة المحتل وعبثه بأرواح وممتلكات أهل القرية ونتج عنها وفاة جندي إنجليزي.
وهنا برزت أنياب المحتل، ونصب محاكماته الصورية، وسِيق لها نحو خمسين من أهالي القرية المُعتَدَى عليها مقرنين في الأصفاد، أعمارهم من الخامسة عشر حتى الخامسة والسبعين، ونصب مشانقه لقتل أربعة من أهالي القرية، وسجن وجلد العشرات، في مشهد عام أمام أهل القرية ليكون عبرة لمن يفكر في مقاومة المحتل الغاصب.
ووقف “إبراهيم الهلباوي” ممثل الادعاء في الحكومة المصرية الموالية للاحتلال ليطالب بأقصى عقوبة على المتهمين الذين تجرأوا بالرد على اعتداءات المحتل، ووجه كلامه للمتهم الأول الذي بلغ الخمسة وسبعين عاما -كما ورد في مضابط جلسات المحاكمة- قائلا: “إن حسن محفوظ أقام الفتنة النائمة؛ فكَدَّر جو أمة بأسرها؛ لأنه مضى علينا خمسة وعشرون عاما ونحن مع المحتلين في إخلاص واستقامة وأمانة، أساء إلينا وإلى كل مصري، فاعتبروا صوتي صوت كل مصري حكيم وعاقل يعرف مستقبل أمته وبلاده”.
وصاحَبَ هذه المحاكمة حملة دعاية وظفت فيها الحكومة والاحتلال الجرائد لتضليل الرأي العام، وقام بعض الأعيان والتجار وذوي المصالح مع المحتل بتنظيم فوج منهم لتقديم الاعتذار للمحتل وإعلان البراءة من هذه الفعلة النكراء.
ولكن.. كانت هذه الحادثة هي الحجر الذي تم إلقاؤه في مستنقع الذل والخضوع الراكد، وكرة الثلج التي ظلت تتدحرج، فتلقفها الزعيم الثائر “مصطفى كامل” وقاد بها صحوة لفضح جرائم المحتل، ثم تعاظمت لتصل بعد ثلاثة عشر عاما إلى ثورة شعبية شاملة ضد المحتل في ثورة عام 1919، وما تلاها.
وظل العار يلاحق الخونة والمهادنين والخادمين للمحتل، فتم اغتيال رئيس محكمة دنشواي “بطرس غالي” عام 1910 وكان وزيرا للحقانية وقتها، وتم نبذ “إبراهيم الهلباوي” من المجتمع وظل العار يلاحقه حتى قرر الهجرة من مصر، ثم عاد لها في قصة طويلة، أما “أحمد فتحي زغلول” الذي كان عضوا في محكمة دنشواي، وهو الذي قام بكتابة الحكم، فقد تم ترقيته بعد عام من محاكمة دنشواي ليصبح وكيلا لوزارة الحقانية، وأقامت له الحكومة حفلا في فندق شِبَرد، وطلب مريدوه من الشاعر “أحمد شوقي” أن يشاركهم بقصيدة، فأرسل لهم مظروفاً مغلقاً، وفتحت لجنة الاحتفال المظروف فوجدت فيه:
إذا جمعتم أمركم وهممتو * بتقديم شيء للوكيل ثمين
خذوا حبال مشنوق بغير جريرة * وسروال مجلود وقيد سجين
ولا تعرضوا شعري عليه فحسبه * من الشعر حكمٌ خطه بيمين
ولا تقرأوه في شبرد بل فاقرأوا * على ملأٍ في دنشواي حزين
حَكَمَ التاريخُ بأن الشعب الذي لا يقاوم يفنى، وحَكَمَ بأن الاحتلال إلى زوال، ما وجد شعبا مقاوما، مهما طال الزمن ومهما عظمت الخسائر.
تلك حقيقة استشرفَها بإيمانه الشهيد “أحمد ياسين”، واستنتجها بدراسته وتحليله المفكر “عبد الوهاب المسيري”، ويدركها معهم كل من له قلب يرفرف في سماء الحرية والعزة والكرامة.