لقد شهدت السنوات الستة والثلاثون الماضية تغييرات كبرى، وتطورات متسارعة، وكانت القضية الفلسطينية في قلب هذه التغيرات، فترك البعض بندقيته، وارتمى آخرون في أحضان الولايات المتحدة والاحتلال، ظنًا منهم أن هذه القضية ستموت عاجلًا غير آجل، إلا أن الثلة المرابطة المباركة أشعلت «طوفان الأقصى»، وأعلنت للعالم أجمع أن التمسك بالبندقية خيارهم الثابت الأصيل في زمن الزيف والتلوّن، وفي قلب هؤلاء البررة كانت حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، طود المقاومة الأشم، وحصن الجهاد المنيع، وفي ذكرى تأسيس الحركة السادسة والثلاثين، قبسات من تاريخها وإنجازاتها.
البذور الأولى
ظهر اسم حركة «حماس» للمرة الأولى في ديسمبر 1987م، بالتزامن مع الانتفاضة الأولى، التي شكلت علامة فارقة في تاريخ النضال الفلسطينيّ، فقد انتقل ثقل المقاومة معها من خارج الأراضي المحتلة إلى داخلها، وفي تلك الظروف قرر الإخوان المسلمون في فلسطين إطلاق حركة «حماس»، لتكون الحركة رافعة للأداء الجهادي الإخواني، ومظلة لمختلف الأعمال الدعوية والتربوية والجهادية، التي تسعى من خلالها لمقاومة الاحتلال وبناء المجتمع القادر على مواجهته، وقد استفادت «حماس» من عراقة تنظيم الإخوان المسلمين في فلسطين وقدمه، إذ يعود تاريخه إلى أربعينيات القرن الماضي.
عملٌ ميدانيّ وعسكريّ لافت
شكلت «حماس» برفقة التيارات الإسلامية الأخرى أبرز مكونات الانتفاضة، فقد كانت تقود الجماهير الفلسطينية في الإضرابات والمظاهرات، وبالتوازي بدأ العمل الجهادي العسكري بالتصاعد، من العمليات الفردية بالسكاكين، وتفجير العبوات، وصولًا إلى اختطاف جنود الاحتلال، ومع تطور العمل العسكري تم تأسيس «كتائب الشهيد عز الدين القسام»، التي ظهرت رسميًا في 1 مايو 1990م، فاستكملت العمل الجهادي البطولي، ودخل إلى المشهد الاستشهاديون، في تطور أرعب الاحتلال، وحول «حماس» إلى الرقم الأصعب في المعادلة الفلسطينيّة.
33 عامًا من الإعداد
لم تقبل «حماس» وفصائل المقاومة باتفاقية «أوسلو»، واستمرت في استهدافها للاحتلال وجيشه، بالتوازي مع مراكمة التجارب، أولت قيادته أولوية للتصنيع العسكريّ، وهو ما يُظهر وعياً إستراتيجياً في سيرورة الصراع مع الاحتلال، وأن الاعتماد على التصنيع المحلي يحرر الكتائب من أي ارتهانٍ وحاجة، إضافة إلى التطوير المستمر على هذه المنجزات، وفي تاريخ «القسام» برز العديد من الأسماء التي أسهمت في هذه الصناعة، ابتداء من عماد عقل، وم. يحيى عياش، وصولًا إلى الزواري، وجمال الزبدة.. وغيرهم، الذين أوصلوا الصناعة العسكرية القسّامية إلى ما هي عليه اليوم.
وشهدت الحروب المختلفة مع القطاع الإعلان عن أسلحة جديدة، ففي معركة «طوفان الأقصى» أعلنت المقاومة عن العديد من الأسلحة، في البر والبحر والمضادة للطائرات، وتستخدم المقاومة قذيفة «ياسين 105» المضادة للدروع كواحدة من أبرز الأسلحة التي تصدّ عبرها التوغل البريّ، وتكبد الاحتلال عبرها خسائر باهظة، وقبل إعداد القذيفة أعدت الحركة المجاهد الصنديد الذي يحملها ويقذف بها حممًا على العدو، بإيمانه وتوكله وعنفوانه.
قوافل الشهداء على طريق التحرير
في تاريخ الحركة المجيد لم يكن قادتها السياسيون أو العسكريون بعيدين عن الاستهداف، فقد زفت الحركة مئات من خيرة قادتها، وآلافاً من أبنائها، ومن أبرز الشهداء القادة عماد عقل، ويحيى عياش، وجمال سليم، ومحمود أبو الهنود، وصولًا إلى صلاح شحادة، وإسماعيل أبو شنب، واغتيال الشيخ القعيد المجاهد أحمد ياسين، في 22 مارس 2004م، الزعيم الروحي للحركة، ومن ثم اغتيال القائد عبدالعزيز الرنتيسي، في 17 أبريل 2004م، ومنذ ذلك التاريخ ومع كل حرب تشنها آلة الاحتلال البغيضة، تتلاحق قوافل الشهداء، فارتقى عدنان الغول، وسعيد صيام، ونزار ريان، وأحمد الجعبري، ورائد العطار، وفي هذه الحرب يترصد الاحتلال كل قيادات الحركة ليسجل نصرًا موهومًا يغطي فيه خسائره المهولة.
أخيرًا، لا تقاس الحركات المجاهدة والدعوات العظيمة بعمرها المجرد فقط، ولا بحجم منتسبيها وجمهورها، فقد أكد التاريخ أن عمر هذه الحركات مزيج لافت من الموقف والثبات والإثخان بالعدو، والدفاع عن مقدسات الأمة وحياضها، فإن هذه التيارات الجليلة المجاهدة روح شفافة تسري في أمتنا، وسيل هادر من مصاولة الأعداء، ومعيار من معايير صحتها وقوتها وحيويتها، وما «طوفان الأقصى» إلا محطة من تاريخ عظيم ثريّ، ومحطة نحو النصر الموعد من العزيز القهار، وكما يقول أمين «القسام» أبو عبيدة حفظه الله: «إنه لجهاد.. نصر أو استشهاد».