نحن قد صرنا الآن إلى زمن قد غلبت فيه بدع كثيرة ليست من الدين ولا تنزع إليه، ولكنها من محدثات الأمم وفتن الأهواء، ونحن أيضًا في زمان ضعف وقلة وتفرق، والأمم من حولنا تتباغى على أنفسها وعلينا، فما يكون اختلافنا على البدع والمحدثات وبغى بعضنا على بعض -ومصير ذلك كله إلى العداوة والبغضاء وأن يكفر بعضنا بعضًا- إلا إعانة لهؤلاء على النيل منا ما شاؤوا.
ثم نحن في زمان جهل بالدين، فليس من أمر الله أن ندع أصل الدين مجهولًا، وننصرف إلى فروع نحاول على إبطالها أو تحقيقها.
وقد روى البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه»، فإذا كان من سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحسم أصل الخلاف بترك مجلس الخلاف في القرآن وهو أصل الإسلام كله، فأولى أن نقوم عن مجلس الخلاف في فروع وسنن، لئلا يفضي ذلك إلى مثل الذي نراه بيننا اليوم من التعاند على بعض السنن بالعداوة، حتى صار لكل صاحب رأي فريق يحامي دونه ويعادي عليه، ثم يقع بعضهم فيما هو أشد نكرًا من أصل الخلاف؛ ألا وهي الغيبة والتفريق بين المسلمين.
والإسلام في بنائه قائم على مصلحة الجماعة، وجعل المسلمين يدًا على من سواهم، وأن يكونوا كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وهذه مصلحة مقدمة على كل المصالح الأخرى، وهي مقدمة على فروع الفقه الإسلامي، كما قدم الجهاد في سبيل الله على كل عمل من أعمال الإسلام.
والإسلام في أصله أيضًا لا يعرف من نسميهم اليوم «رجال الدين»، فإنما هم من المسلمين يعملون أول ما يعملون في حياطة الجماعة وإقامة كيانها الاجتماعي والسياسي بالعمل، كما يعمل فيه سائر الناس في وجوه العيش وضروب البناء الاجتماعي، وليس الانقطاع للجدل في الفقه والسنن والتوحيد عملًا من أعمال الحياطة إلا أن يبنى على المسامحة والأخوة والرضا وترك اللجاج والمعاندة، وإلا فهو شرٌّ كبيرٌ يجب على المسلمين أن يحسموا أصله.
فإذا استقرَّ البناءُ الاجتماعيُّ للأُمم الإسلامية على أصولِ الإيمان المُبصِر والتقوى الهادية، وتبرأت النفوس والقلوبُ من غوائل الضعف والذلّةِ والخُضوع، وقام على الأمم الإسلامية قرآنُها يَهديها، ويُهذِّبُ شُعوبها، ويرقِّق أفئدتها لدين الله، ويؤلف قلوبها على إعلاء كلمة التوحيد، ويجمعها على دستور الإسلام في التشريع الواضح الحازم القوي، ويجعل الاجتماع في كل بلد إسلامي اجتماعًا بريئًا من فتن الغواية ومحدثات الشر، ثم تكون للمسلمين حضارة من أصل دينها تضارع الحضارات التي تناوئ شعوبها وتستذلها.
إذا كان ذلك كله؛ فعندئذ يستطيع الحكم الإسلامي أن يرد ما يبقى من البدع التي غلبت على أهل الجهالة بالسلطان الحاكم لا بالكلام المفرق بين الناس، وإذن فأجدرُ العملين برجال الإسلام من أصحاب الفقه والشريعة والتوحيد أن يعملوا على إنقاذ المجتمع الإسلامي من أسباب ضعفه بهدايته بأسباب القوة الأخلاقية والفكرية التي جعلت المسلمين في ثمانين عامًا سادة حاكمين على الإمبراطورية التي جاهد الرومان في بنائها ثمانمائة عام، وإلا فلن يكون بعد مائة عام محمل في حج ولا محراب في مسجد.
___________________
نقلا ًعن كتاب «جمهرة مقالات محمود شاكر».