ما لا يختلف فيه اثنان أن معركة «طوفان الأقصى» تشكل انعطافة كبيرة في تاريخ أمتنا العربية والإسلامية، ونقطة مضيئة في واقعها، التي عاشت هزائم ونكبات متتالية على مدار ما يزيد على مائة عام، قسمت فيه الأوطان، من خلال اتفاقيات فرض المستعمر من خلالها حدوداً وتقسيمات، شرذمت أمتنا وقطَّعت أوصالها، وسهلت السيطرة عليها؛ فاستعمرت استعماراً مباشراً لعشرات السنين، ثم تلاه استعمار غير مباشر الذي ما زلنا نعاني من تبعاته الثقيلة؛ تفرقة وعمالات وخيانات، وقد خسرنا درة الإسلام والمسلمين، مسرى نبينا وجل فلسطين.
إن معركة «طوفان الأقصى» تخوضها طائفة لا تتجاوز في العدد 40 ألفاً من المقاتلين، عاشوا حصاراً طويلاً، زاد على 17 عاماً ثقالاً، في قطاع محدود المنافذ والموارد، وبعُدة وعتاد محلي الصناعة، في ورشات متواضعة جداً في تجهيزاتها وإمكاناتها، وعلاوة على هذا تعرض فيها لعدة حروب شنها هذا العدو الغاصب، لم يقو خلالها على تحقيق أي من أهدافه العسكرية المعلنة، بل على العكس من ذلك كان فيها الخاسر المهزوم، رغم ما كان يلحقه من ضرر في صفوف المدنيين فقط، بعيداً عن الوصول للمقاومة ورجالها ومعداتها ومعسكراتها.
«طوفان الأقصى» نقطة مضيئة لأمتنا التي عاشت هزائم على مدار قرن مضى
هذا الجيش الأسطوري الذي انتصر على جيوش دول عربية مجتمعة، تتحطم أسطورته اليوم، وتنكشف سوءته وحقيقته، وحقيقة الحروب التي خاضها، وحقيقة الأنظمة العربية التي خاضت معه هذه الحروب، في «طوفان الأقصى» يفشل فشلاً ذريعاً، بل ويخسر خسارة فادحة في جنوده ومعداته، برغم العدد الضخم الذي حشده العدو المحتل لتحقيق أهدافه في عدوانه، والعتاد الحديث والهائل الذي تسلح به، والمدد الموصول براً وبحراً وجواً الذي يأتيه سلاحاً ورجالاً من قوى عالمية على رأسها أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.
غزة المقاومة
لم يكن العدو المحتل يتوقع 50% مما وجده ولاقاه في غزة العزة، وعلى جميع الأصعدة، فلم تكن مفاجأته من المقاومة أقل من مفاجأته بأطفال غزة، ونساء غزة، ورجال غزة، وشيوخ غزة، وإعلاميي غزة، وأطباء غزة، حتى مرضى غزة.
غزة بكل مكوناتها كانت مقاومة، وكانت مضرب المثل في مقاومتها، وصمودها، وقوتها، وهيبتها، وجلال مشاهدها، وجلال رجالها وشيوخها.
غزة المقاومة بكل مكوناتها رسمت لوحة مذهلة، في ألوانها، في تناسقها، في أنوارها، في تكاملها، لا بل في تنافس مكوناتها.
فأطفالها لا يشبهون أطفالنا، ولا أي أطفال في هذا العالم الحالم الظالم، أطفالهم نسيج آخر لا نعرف تفاصيله، ولا نعرف مكوناته، أطفالهم نسيج بطولة نسجت خيوطها بعناية الله، أطفالهم رجال في أحاديثهم، رجال في أفكارهم، رجال في مقابلاتهم، رجال في تعبيراتهم، رجال في تحدياتهم.
وعند الحديث عن نساء غزة، تتحدث عن الصبر الجميل، تتحدث عن التضحيات، تتحدث عن الصمود والثبات، تتحدث عن الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره، تتحدث عن المؤمنات الصابرات القانتات المجاهدات، تتحدث عن الزوجات اللاتي يكبّرن الله حين تتلقى خبر استشهاد زوجها، وعن الأمهات اللاتي يزغردن في وداع أبنائهن، وعن البنات اللاتي يتفاخرن بشهادة آبائهن، وعن الأخوات اللاتي يحدثنك بفرح عن إخوانهن الشهداء، لقد كن وما زلن خير الزاد للمجاهد في صبره ومضائه وعزيمته وثباته.
أما رجال غزة، فحدّث ولا حرج، فإن تحدثت عن الرجولة فهم أهلها، وإن تحدثت عن الصبر فهم عنوانه، وإن تحدثت عن الصمود فهم رجاله، وإن تحدثت عن التضحيات فهم طلابها، وإن تحدثت عن الوطنية الحقة فهم أسودها، وإن تحدثت عن المقاومة فهم سندها وعضدها، وإن تحدثت عن التماسك والتواصل والتعاون والإيثار فهم ساداتها المتنافسون في ميادينها، رجال غزة الأطباء بذل وعطاء، رجال غزة الممرضون تفانٍ بلا منٍّ أو تأفف، رجال غزة المسعفون ثبات وتحدٍّ، رجال غزة الإعلاميون تضحيات جسام، وصبر دونه شمم الجبال الرواسي، وليس الإعلامي البطل، الصامد كالجبل، وائل الدحدوح إلا نموذجاً عظيماً للمئات منهم، وبالمحصلة رجال غزة رجال الله، يحمل أحدهم طفله، بعد أن يجمع أشلاءه المتناثرة، فيقول: يا الله، لك الحمد حتى ترضى، يا الله، خذ من دمنا ودم أبنائنا حتى ترضى.
غزة اليوم قِبلة الأمة وصمودها وإنجازات مقاومتها وتماسك بنيانها الاجتماعي
رجال المقاومة، رجال «المسافة صفر»، رجال المواجهة، رجال الكمائن، وصيادو الدبابات ومدمروها، رجال «وما رميت إذ رميت»، رجال الله في الميدان، رجال النصر بإذن الله أو الشهادة، رفعوا شعارهم الخالد الذي ورثوه عن أجدادهم المجاهدين: «إنما هو جهاد؛ نصر أو استشهاد»، رجال طابت نفوسهم بالشهادة، وطلبوها أمنية عزيزة، يفرحون لمن ينالها من إخوانهم، ويصل محطتها قبلهم.
غزة قبلة العالم.. فهل توثق؟
غزة اليوم قبلة العالم كله، قبلة للأحرار يستلهمون منها معاني العزة والكرامة، وقبلة للثوار يستمدون منها ومن رجالها ومقاومتها العزم والقوة والثبات، وقبلة العالم الكافر، الذي وقف مشدوهاً مدهوشاً؛ ليعيد النظر في معتقداته وأفكاره ودينه.
غزة اليوم قبلة الأمة بشموخها وصمودها، وإنجازات مقاومتها، وتماسك بنيانها الاجتماعي، وتواصل أفرادها، وصدق ثباتهم وتمسكهم بأرضهم وديارهم، رغم القتل والدمار، رغم ما يتعرضون له من إبادة وحشية، تستهدف الإنسان والبنيان، والنبات والحيوان، على حد سواء، بلا هوادة.
تستحق بهذا كله أن تتصدر الخطابات، وأن تنظم بها القصائد، وأن تسير بها الركبان، وأن تكون حديث الدواوين واللقاءات، وقصص الأمهات للأبناء والبنات، قبل نومهم وفي صحوهم، وأن يكون حديثها حاضراً كل المناسبات، فهذا أقل الواجب الذي يقع على عاتق الأمة، تجاه التضحيات الجسام التي قدمتها غزة المقاومة، انتصاراً للقبلة الأولى، وأهلها.
ولا يكتفى بهذا، بل من الواجب على النظام الرسمي في أمتنا، أن يسعى إلى أن توثق المناهج التعليمية في بلادنا العربية والإسلامية هذه التضحيات العظيمة، والبطولات الرائعة، والانتصارات الكبيرة، والصمود الأسطوري في تحدٍّ وثبات، لتكون مواد علمية ومنهجية، تتربى عليها الأجيال، حتى تشكل لهم القدوة في القوة، والزاد في البذل والتضحية، والشعار في صدق الانتماء، وصلابة الولاء.
فهل نرى هذه الخطوة من أنظمتنا التي خذلت غزة ومقاومتها؟ فلم تكن على مستوى الحدث، لا سياسياً ولا عسكرياً، ولا إنسانياً، واكتفت بموقف المراقب استنكاراً وإدانة، فهل تنال شرف توثيق غزة تربوياً، وتجسيد صمودها وبطولاتها فنياً، بمسرحيات ومسلسلات وأفلام متقنة الإعداد والإخراج؟!