لا تُخاض الحروب الحديثة دون استدعاء مقولات أخلاقية وذرائع إنسانية، وقد يتزايد الاغتراف منها مع الإسراف في الانتهاكات والولوغ في الفظائع؛ خاصة عندما تأتي من جيوش دول تتصدّر مشهد الترافع باسم الإنسانية والحقوق والحريات.
يتجلّى هذه المسلك في حروب القرن الحادي والعشرين التي اتّخذت من بعض المبادئ والقيَم شعارات تذرّعت بها، فهي لأجل الحرية وحقوق الإنسان ونشر الديمقراطية، أو باسم الإنسانية والحضارة، أو هي حرب النور على الظلام، وحملة الأخيار على الأشرار!
لا عجب في هذا المسلك، فمن عادة حملات الغزو والتوسّع عبر التاريخ أن تتذرّع بمرجعيّات أممها وعالمها في كلّ حقبة، فكما جرت باسم الربّ قبل ألف سنة –بتعبير البابا أوربان الثاني- أو تحت راية الصليب قروناً متعاقبة؛ تصير شعاراتُها إنسانية وأخلاقية وقيمية ومبدئية في حقبة تُعلي هذه المرجعيات وترفعها شعاراً وقد تتخذها ذريعة على هذا الأساس.
إن إطلاق أوصاف الحضارة والتحضُّر والإنسانية والخير والنور على نهج آثم يقترف الفظائع وينتهك المحرمات، هو في حقيقته خطاب غطرسة نمطي؛ مشبع بعنصرية مراوِغة أو استعلاء مُتحايِل، فهو يُمعِن –تصريحاً أو تلميحاً- في نزع الإنسانية ونفي التحضُّر وإنكار الأخلاق عن شعوب ومجتمعات يستهدفها بالقتل الجماعي والدمار الشامل. يُعيد هذا النهج إنتاج خطابات تبرير التوسُّع والسيطرة والاضطهاد التي شهدها العالم خلال العهد الاستعماري المديد؛ المُثقَل بسياسات وممارسات أمعنت في الإبادة والاستغلال والجرائم البشعة التي شعارات نشر التحضّر وذرائع التفاضل بين البشر، وتتجلّى مقولة الاستعمار ذاتها تغليفاً لهذا النهج.
تستدعي دعايةُ الحروب الحديثة مرجعيّاتٍ قيميةً ومبدئيةً بصفة انتقائية حسب أولويّات المصالح، ومن مقاصد هذا الاستدعاء توظيف القيَم والمبادئ ضد القيَم والمبادئ، أو استعمال بعضها للمساس بحياة البشر وسلامتهم وأمانهم، ولانتهاك حريّاتهم وحقوقهم وكرامتهم.
ممّا يُذكي هذا المسلك هيمنةُ منظور استعلائيّ كامن على أمم وشعوب وثقافات أخرى، واستبطان منطق عنصري لا ينظر إلى عموم البشر على قدم المساواة؛ دون أن يُصَرّح بذلك أو يُقِرّ به، فممّا يُحفِّز النزعة الانتقائية في تشغيل القيَم والمبادئ والمواثيق ألا يُرى لبعض شركاء الإنسانية امتيازٌ مُماثل لما يُفترَض أن يحظى به غيرهم.
قد تُسفِر هذه العنصرية أو الغطرسة عن ذاتها صراحةً في بعض التعبيرات أو تستتر خلف مقولات محبوكة، لكنّ النتيجة تقضي في الحالتيْن بتعطيل سريان القيَم والمبادئ والمواثيق على الواقع بصفة سابغة؛ وبالامتناع عن الإقرار الضمني بتكافؤ أرواح البشر أو بتساوي حقوقهم وحريّاتهم وكرامتهم وإن زُعِم الالتزام بذلك.
حَسِب بعضَهم أنّ الأمم الحديثة المتحضِّرة لن تتورّط في حملات إبادة جماعية وتطهير عرقي وجرائم حرب بشعة، فالتوحُّش، حسب هذا الانطباع، محسوبٌ على الماضي، أو على أمم ومجتمعات أخرى موصومة بالتخلّف؛ ما يُغري باستساغة هذا الانطباع أنّه يوافق الواقع المشهود داخل أمم الحداثة والتحضُّر، حيث تسري أنظمة وأعراف تحول دون انزلاق بيئاتها الداخلية إلى الوحشية التقليدية، لكنّ ذلك لا ينفي إمكانية تورُّطها في انتهاكات جسيمة خارج هذا الواقع، على أنّ هذا يتطلّب سرديّات مكرّسة لتبريره وتسويغه، واللجوء إلى ممارسته خارج الفضاء المرئي للجمهور الداخلي والعالمي قدر الممكن، وباستعمال أدوات تقنية أو أطراف وسيطة ما أمكن ذلك؛ مثل الطائرات بدون طيّار أو الصواريخ الموجّهة عن بُعد أن جيوش وقوّات تدير حروباً بالوكالة دون أن تُحسَب فظائعها وانتهاكاتها على رُعاتها وداعميها.
غنيّ عن البيان أنّ لكلّ حرب عدوانية حديثة سرديّة محبوكة مكرّسة لتبرير ما تُقْدِم عليه؛ وإن بلغ مبلغ الفظاعة المرئية والمروق من الإنسانية، إنّ استغلال شعارات نبيلة في خدمة القهْر والبطش والقتل والإبادة يتطلّب قلْب الحقائق وتزييف الوقائع وتغييب الوعي بما يجري.
لم يبرأ القرن الحادي والعشرون من تجديد العهد بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب وفظائع الاضطهاد والفصل العنصري، وقد مُورِسَ بعضها بأساليب مُطوّرة عن خبرات سابقة، وتوفّرت لها سرديات مُتذرِّعة بالمبادئ والقيم والأخلاق والإنسانية حيكت لتبرير كلِّ ما يُمكن اقترافه في الميدان.
من خلاصات المشهد أنّ دعم الاحتلال العدواني وحملات الإبادة والتطهير العرقي وجرائم الحرب وفظائع الميدان بسرديّات تتذرّع بالأخلاق والمبادئ والإنسانية؛ هو تغليف زائف يتّخذ من الشعار الأخلاقي والمبدئي والإنساني أداة قتل وقهر واضطهاد.
قد يتأتّى لبعض سرديّات دعم العدوان الحربي والإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب؛ أن تتمكّن من وَعي أمّتها وقد تستبدّ بمنصّات عالمها، إلى درجة تُحاصِر جماهير ونخباً داخل فقاعة السردية المحبوكة التي تحجبها عن الواقع من حولها وتعزلها عن التفاعل المنفتح مع رؤى تفترق عن الرواية المُعتمدة في بيئتها.
أظهرت حملة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب التي شُنّت على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بدءاً من أكتوبر 2023م، المدى الذي قد يبلغه هذا المسلك، ومن شواهد هذه الحملة الوحشية أنّ دُوَلاً تُعلن الالتزام بالديمقراطية وحقوق الإنسان، حفّزت، من واقع خطابها وسلوكها، إيقاع مآسٍ مرئيّة مروِّعة في غزة شهراً بعد شهر، أباحت بعض قوى النفوذ الدولي لذاتها بأن تُواصل إمداد جيش احتلال وعدوان بالأسلحة والذخائر الفتّاكة التي استخدمها في جرائم حرب شنيعة في الأحياء السكنية والمرافق المدنية والمستشفيات ومراكز الإيواء ودور العبادة؛ على مرأى من العالم أجمع.
إنّ سلوك التحيّز والغطرسة والتجاهل والتبرير الذي مورس مع الشعب الفلسطيني وهو يُذبَح علناً على مدار الساعة في قطاع غزة والضفة الغربية؛ مثّل تعبيراً جليّاً عن منطق المركزية الغربية المُعولَمة التي تصرّ على احتكار الحقيقة ومصادرة القيَم والمبادئ وتشغيلها انتقائياً حسب مصالح قوى النفوذ الدولي وفرض سردية أحادية على العالم أجمع، اتّضح للعيان كيف تتناقض المواقف الصادرة عن تلك القوى حسب مصالحها واستقطاباتها؛ على نحو ينزع المصداقية عن مواقفها عموماً، فهي تحاول حشد العالم ضد انتهاكات وممارسات معيّنة؛ ثم تباشر حشد العالم لدعم انتهاكات وممارسات أعلى جرماً وأكثر فظاعة في أقاليم أخرى.
توفّرت لحملة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة سرديّات تبريرية مُسبقة لكلّ ما ابتغت الإقدام عليه؛ مِن قتل جماعي شوهد عبر شاشات العالم على مدار الساعة؛ وتهجير قسري للسكّان من المُدُن والبلدات ومخيّمات اللاجئين؛ وانتهاك لحرمة المنشآت المدنية والمرافق ذات الحصانة الدولية والدينية والصحية، ولا عجب أن تقود هذه الممارسات إلى رفع دعاوى إبادة جماعية في المحاكم الدولية.
شجّعت سياسات ومواقف على المسرح الدولي حملة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، بالدعم المباشر لآلة العدوان الحربية والسياسية والمادية والدعائية، وبالتهاوَن مع فظائع تقترفها والتماس تبريرات محبوكة لها بصفة أطاحت بالقانون الإنساني الدولي. وجدت مُراوغاتٌ لفظية وحجج تبريرية سبيلها إلى الخطابات السياسية والتغطيات الإعلامية والمنصّات الثقافية بهدف دعم حملة الإبادة والتطهير العرقي وجرائم الحرب؛ من خلال التهوين منها والتستُّر عليها وإعفاء مقترفيها من المسؤولية عنها والإمعان في لوْم الضحية الذي يُحمّل المسؤولية عن عذاباته وآلامه باستعمال مقولات نمطية محبوكة مع إعفاء جيش الاحتلال والعدوان من أيِّ مسؤولية عمّا يقترفه. إنّ هذا المسلك المتواطئ والمُضلِّل ضالع في المسؤولية عن إزهاق أرواح آلاف الأطفال والنساء والمدنيين وقصف المنشآت والمرافق السكنية والمدنية، ومنها مستشفيات ومدارس ومساجد وكنائس وأديرة، حتى عندما أظهرت هذه الخطابات السياسية والإعلامية والثقافية تعاطفاً شكلياً مع هؤلاء الضحايا الأبرياء وحرصاً مصطنعاً على وصول المساعدات الإنسانية.
برزت حرب الإبادة الجماعية في غزة مثالاً على تستُّر الحروب العدوانية الحديثة بغلاف أخلاقي وحرصها على إظهار السموّ الإنساني أيضاً، فالدول التي تُشجِّع المذابح الرهيبة لا يفوتها إظهار الانشغال بالأوضاع الإنسانية المأساوية التي يُقاسيها ضحايا أسلحتها وذخائرها وسياساتها ومواقفها، وقد تُعلن عن الحرص عليهم وتقديم مساعدات لهم بعد تشريدهم وتدمير مساكنهم والإجهاز على ذويهم.
ثمّ إنّ تجربة غزة أفصحت عن نظرة غير متساوية إلى البشر، فالدموع تُذرَف انتقائياً حسب هوية الأشخاص، ولا يشفع للبكائية بأن تنطلق حتى إن تصاعدت مؤشرات الضحايا الأبرياء إلى مستويات قياسية؛ فذلك لا يكفي لإظهار الاكتراث الجادّ بهم إن حُسِبوا على جانب دون آخر.
إنّ تسليط الأضواء على حالات وإن كانت مزعومة وملفّقة، واستدرار بكائية سياسية وإعلامية بشأنها، كما جرى مع مجتمع الاحتلال الاستيطاني العسكري بعد حدث السابع من أكتوبر 2023م؛ قابله على الجبهة الأخرى تشكيك صريح بأعداد الضحايا الذين تفتك بهم حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة. ثمّ إنّ الإقرار بالأعداد إن وقع يُجرّد من الشحنة العاطفية التي اختُصّ بها جانب دون جانب على طرفيْ الصراع.
إنّ أنسنة الجاني ونزع الإنسانية عن ضحاياه هو مسلك نمطي لا غنى لفظائع العصر عن اللجوء إليه، وهو مسلك ينطوي على تسويغ ضمنيّ لمزيد من الولوغ في التقتيل والتدمير والانتهاك وإن لم يُدرِك المنجرفون معه خطورة منطقهم هذا.
لا يتوقّف المسعى عند هذا الحدّ؛ فهو يعمد إلى تزييف الواقع وإساءة تأويل الصراع، ومن ذلك محاولة تصوير حركات التحرّر ونضالات الشعوب على أنّها نزاع بين طوائف؛ بدلاً من الإقرار بقضية شعب يتعيّن تمكينه من حقوقه غير القابلة للتصرّف ومساندته كي يتحرّر من الاحتلال والاضطهاد والقهر والعبودية.
مضت التواطؤات إلى محاولة إسكات التضامن العالمي وترهيب المنخرطين فيه، عبر وَصم التحرّكات الشعبية التي رفعت صوتها ضد الإبادة والتطهير العرقي وجرائم الحرب في فلسطين بأنّها توتُّرات مدفوعة بالكراهية والعنصرية. تتغافل هذا السردية عن أنّ هذه التحرّكات العارمة تعبِّر عن ضمائر إنسانية ومواقف أخلاقية تنتظم فيها مكوِّنات المشهد الإنساني المتنوِّع من مختلف الإثنيات والطوائف، كما تتجاهل الطبيعة القيمية والمبدئية للمواقف والشعارات المرفوعة في ميادين العالم رفضاً للإبادة وانتصاراً للإنسانية ودعماً لحرية الشعب الفلسطيني وحقوقه.
إنّ العالم الذي يُحدِّد موْقفه من الفظائع طبقاً لهُويّة الجاني وهُويّة الضحية؛ هو عالم لا أمان فيه ولا حقوق ولا عدالة، وسيبقى عالماً لا تتورّع دوله وجيوشه عن الفتك ببعض البشر لتمكين بعض السياسات التي تُقدِّم مصالحها على التزاماتها المُعلنة؛ ولن تتردّد تلك القوى حينها في استغلال شعاراتها النبيلة في خدمة القهْر والبطش والقتل والإبادة؛ وستبقى حريصة على قلب الحقائق وتزييف الوقائع وتغييب الوعي بما يجري والتشهير بمن ينبري إلى قول الحقّ وإنصاف المظلومين.