تُستَعمل لفظة «الإنسانية» في كثير من سياقات الحياة اليومية، والمعنى المرتسم لها في الأذهان هو الدلالة البريئة التي تفيد الانتماء لصنف البشر عوضًا عن أصناف المخلوقات الأخرى، وتفيد القيم المُتعارف عليها فِطريًّا على اختلاف الأعراق والعقائد،
وهذه دلالات كامنة حقيقة بالفعل في اللفظة؛ لغة وشرعًا، فالله تعالى رب الناس وفاطر الناس، لكن الإشكال يبدأ من بساطة الاقتصار على هذه الدلالات البريئة، والخلط في الفهم والاستعمال بين الإنسانية (Humanity) والإنسانوية (Huamanism)، وعدم إدراك تاريخ نشأة الألفاظ ومقصود استعمالها الأصلي عند من أطلقوها وعمّموها فيما يعرف بالمواثيق الإنسانية.
دلالة «الإنسانية»: مذهب اعتقادي لا مجرد خاصية مشتركة بين الناس!
من الخلاصات الجامعة في بيان ذلك التاريخ، ما جاء في كتاب «رفيق كامبريدج إلى مذهب الإنسانوية في عصر النهضة»، المترجم إلى العربية بعنوان «رفيق كامبريدج إلى عصر النهضة الإنسانية»، وهي ترجمة غير صائبة وتؤدي لاختلاف الدلالة(1)، يعرض فصل بعنوان «أصول المذهب الإنساني» (The Origins of Humanism)، قصة نشأة المصطلح وتطوّر دلالاته(2)، والخلاصة هنا:
– اشتُقت لفظة «الإنسانية» (Humanity) من الكلمة اللاتينية «Humanitas»، التي استخدمها المفكر الروماني شيشرون وآخرون، لأول مرة في روما القديمة، لوصف التعليم الليبرالي أي الحرّ من التبعية لأية خلفيّة مُعيّنة إلا الأساس الإنساني الواسع.
– ثم ظهرت كلمة أخرى خلال عصر النهضة الإيطالية باسم «Umanista» ودخلت اللغة الإنجليزية في القرن السادس عشر بلفظة «Humanist»؛ وتعني «الشخص الإنساني»، لوصف طلاب الأدب الكلاسيكي وأولئك الذين يدافعون عن التعليم الكلاسيكي (ولاحقًا ستصير دالّة على الشخص المدافع عن حقوق الإنسان).
– ثم في أوائل القرن التاسع عشر تم استخدام مصطلح «Humanismus» في ألمانيا مع عدة معانٍ، ومنها أعيد إدخاله إلى اللغة الإنجليزية بدلالتين مختلفتين:
– «الإنسانيات» (Humanities): مصطلح أكاديمي مرتبط بدراسة الأدب الكلاسيكي.
– «الإنسانوية» (Humanism): مصطلح دلالته الأكثر شيوعًا هي نهج غير ديني للحياة (Atheism) في مقابل مبدأ الإيمان بوجود ألوهية عامة (Theism).
ومن التعريفات الشمولية لمذهب «الإنسانوية» ما جاء في مقالة «ما هو مذهب الإنسانوية؟» من تأليف آندرو كوبسن، الرئيس التنفيذي لمنظمة «الإنسانويون في المملكة المتحدة» (Humanists UK)، ورئيس منظمة «الإنسانويون الدولية» (Humanists International): «الإنسانوية هي نهج حياة ديمقراطي وأخلاقي، يؤكد أن البشر لهم الحق والمسؤولية في إعطاء معنى وشكل لحياتهم، إنها تمثل بناء مجتمع أكثر «إنسانية» من خلال أخلاقيات تقوم على القيم الإنسانية وغيرها من القيم الطبيعية، بروح العقل والتساؤل الحر من خلال القدرات البشرية، إنه ليس مذهبًا إلهيًّا (لا يؤمن بمبدأ الألوهية) ولا يقبل الرؤى الفوق طبيعية (الخارقة) للحقائق»(2).
فإذا راجعنا مختلف تعريفات العلمانية، سنجد أن مذهب الإنسانوية ليس إلا كسوة أخرى للعلمنة وإن بزركشة أكثر، من ذلك: «العلمانية (مأخوذة من اللاتينية «Saeculum» بمعنى «الدنيوي» أو «خاص بزمان»)، هي حالة عدم الارتباط أو الحيادية فيما يتعلق بالدين، يمكن اعتبار أي شيء لا يحتوي على إشارة صريحة إلى الدين سلبًا أو إيجابيًا، علمانيًّا»(4).
والخلاصة المعنيّة في هذا المقام أن مذهب الإنسانوية في أصل تصوّره للوجود وليد نفس الرَّحِم الذي أنجب كل أصناف الفلسفات والعقائد المنطوية على خصومة دينية عامة وإسلامية خاصة، وإن اتخذ من «المشترك الإنساني» أو «القيم الإنسانية» جسرًا.
لذلك فالترويج للإنسانية باعتبارها وصفًا بريئًا مُشتَرَكًا بين مجموع الناس، له وجه آخر لا بد من وضعه في الحسبان: وهو كونها في الأصل مذهبًا عقديًّا بدأ بهدف تجريد الإنسان باطنًا من القناعة الدينية، ثم تمادى إلى تجريده ظاهريًّا! وهكذا كلما تعرّى الإنسان ظاهرًا من اللباس بدعوى التمدّن والتجمّل والتحرر، وتجرّد باطنًا من الانتماء العقدي ذي الموازين الواضحة والمبادئ الثابتة بدعوى الحياد والموضوعية والنسبية والمرونة.. إلخ، صار أكثر إنسانية! فتأمل التضارب وأعجب لغافل عن مضامينه ومآلاته!
الإسلام ذروة الإنسانية
أول من ابتدع الإنسانية بوصفها مرجعية بديلة عن الدين (وبالتالي دينًا بحدّ ذاتها) أولئك الذين حُرِموا الدين الحق، ومع ذلك تلقفها منهم الذين هُدُوا للحق بقناعة تامة وترحاب ساذج، كأنما يساوون أنفسهم بهم في الحرمان! فيكثر على لسان بعض المسلمين إعلان الانتساب إلى المرجعية الإنسانية، خاصة في معرض الكلام عن الأخلاق: فالرحمة بالمخلوقات من باب الإنسانية، والعدل بينهم من باب الإنسانية، والعطف والشفقة والعون والمروءة كلهم من باب الإنسانية! وإذا عاونتَ –مثلًا- مسلمًا في أمر ما بدافع نفعه وإدخال السرور عليه، يشكرك بتفلسف قائلًا: «ولو لم أكن مسلمًا تكفي مساعدة إنسان بدافع الإنسانية»!
والحق أنها لا تكفي، وينبغي ألا تكفي!
فإذا كانت الإنسانية مرتبة كرامة بين المخلوقات إجمالًا، فالإسلام مرتبة كرامة بين الناس خصّيصًا، فلماذا يرضى من أوتي الكرامتين أن يفخر بواحدة منهما، بل والأدنى بينهما؟!
وإذا كان نفع الإنسان مثوبة من حيث النفع، فنفع إنسان مسلم ضعف المثوبة – على الأقل – وذلك من حيث شرف الإسلام ومن حيث مبدأ النفع، ففيم الاستهتار بقيمة الضِّعف الحقيقي لصالح الوجاهة (البرستيج) الوهمية والعلمانية الكامنة في التشدق بالإنسان «مجرّدًا»؟!
ثم إن الله تعالى هو الذي خلق الإنسانية وناسها، وهو الذي علّم الإنسان ما لم يكن يعلم، فأنى يُنسَب للإنسانية بذاتها فضائل الأخلاق والأعمال، مع أن إنزالها بين الخلائق ابتداء كان كذلك من عنده تعالى، كما جاء في الحديث: «جعل اللهُ الرحمةَ مائةَ جُزءٍ، فأمسك عنده تسعةً وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرضِ جزءًا واحدًا، فمِن ذلك الجزءِ تتراحمُ الخلقُ، حتى ترفعَ الفرُس حافرَها عن ولدِها خشيةَ أن تُصيبَه» (رواه البخاري)، وكل الأخلاق التي أجمعت الإنسانية عليها على مرّ العصور وتُنسَب ظلمًا لـ«المرجعية الإنسانية» كأنما هي التي أوجدتها ذاتيًّا، مصدرها أثر نفخة الحق في أرواح بني آدم، وأثارة فطرة الحق الباقية رغم أنف المتمردين!
وإن من مِنّة الله تعالى على من دان بالإسلام حقًا أنّ رؤيته للكون تغدو أوضح وحركته فيه أصح، ولا يعود عليه اختراع فهم لهذا الوجود ولا سَنَّ قوانينه بنفسه، فكيف يغفل المسلم الذي يَنسِب نفسه للمرجعية الإنسانية عن نعمة أن الله تبارك وتعالى بمحض فضله اصطفاه من بين الناس كلهم لينتسب للتشريع الحق الذي يرسم للإنسانية معالم الحقانية والسمو البشري؟! أفيهدي الله تعالى إنسانًا صراطًا مستقيمًا، ثم هو يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!
إن الله تعالى خالق الإنسانية وفاطر الإنسان لا يرضى من الناس غير الإسلام دينًا، فالإسلام هو وحده هو التطبيق الحق للإنسانية في فطرتها السوية قبل أن يداخلها التحوير وتمتد لها أيدي العبث، وهو سبيل الإنسان الحقيقي لتحققه بالإنسانية في أحسن صورها وأوفقها اتزانًا، والمسلم أولى الناس بأن يغَار على دينه ولا يرضى لنفسه دينًا سواه، وأن يحذر خاصة من تلفيق الأديان الصغيرة المتفرعة عن باطل مع الدين الحق، ليتعايش الكل معًا في وئام وهمي!
الإنسان فطرة، وفطرة الإنسان الإسلام، والإنسانية دين، والدين الحق الإسلام، فالحمد لله الذي سوَّانا ناسًا وجعلنا مسلمين(5).
_______________________
(1) The Cambridge Companion to Renaissance Humanism، Cambridge University Press، London، 1996.
(2) Nicholas Mann، “The Origins of Humanism”، The Cambridge Companion to Renaissance Humanism، Cambridge University Press، London، 1996.
(3) Andrew Copson، “What is Humanism?”.The Wiley Blackwell Handbook of Humanism، John Wiley & Sons، 2015.
(4) Lois Lee، “Recognizing the Non-Religious: Reimagining the Secular.” Oxford University Press، London، 2015.
(5) للمزيد عن الفوارق بين التصور الشرعي والإسلامي وخطر التلفيق بينهما، يُراجع كتاب «الأسئلة الأربعة» للمؤلفة.