يرتكز المشروع الصهيوني في فلسطين على هدف رئيس من بين أهدافه الكبرى؛ وهو استهداف المرأة بشكل خاص؛ لأنها عنوان الصراع الديمغرافي مع الكيان الصهيوني الذي يرمي إلى تقليص أعداد الفلسطينيين لتقليص أخطار التزايد السكاني على وجوده، في الوقت الذي يعاني من نسبة عالية من الفساد والتحلل الأخلاقي، وتراجع نسب الزواج والخصوبة، تفوق النسبة التي تعانيها البلدان الغربية التي تشترك مع المجتمع الصهيوني في نفس القيم الاجتماعية والأسرية التي تنذر بخراب عمرانها.
وبالرغم مما تعرضت وتتعرض له المرأة الفلسطينية طيلة عقود على يد الاحتلال الصهيوني، وما تتعرض له تحت القصف الصهيوني في هذه الأيام، فإننا لا نسمع أصوات الجمعيات النسائية في العالم أو في العالم العربي ترتفع لكي تندد بما تتعرض له المرأة الفلسطينية من إبادة وتقتيل وتجويع وتشريد.
ففي قطاع غزة، تقول التقارير: إن نسبة 70% من ضحايا القصف والعدوان من النساء، فهن الشريحة التي تدفع ثمن العدوان من فقد لأزواجهن وأطفالهن ومعيليهن، وهي الفئة التي تتعرض للقتل بسبب هشاشتها وعدم قدرتها على مجابهة القصف، لكن في الوقت الذي يتم التضامن مع بعض فئات النساء في العالم من طرف المنظمات النسائية الدولية والعربية، نرى هذه الجهات تلتزم الصمت تجاه ما يحصل للمرأة الفلسطينية، بالرغم من أن هذه المنظمات تدعي في برامجها ودراساتها الدفاع عن حقوق المرأة وكرامتها في العالم، وتتبنى قضايا النساء.
غير أن ما يجب عدم إغفاله أن المرأة الفلسطينية تمثل نموذجًا مغايرًا للنموذج الحضاري الذي تتبناه هذه المنظمات النسائية العربية والغربية، فالمرأة الفلسطينية تتشبث بأصالتها ودينها، وهي محجبة، فيما المنظمات النسائية لا تتبنى قضايا المحجبات، بل هي منظمات للدفاع عن قضايا المرأة السافرة؛ والمرأة الفلسطينية سيدة تؤمن بالأسرة وترى في الإنجاب وتربية الأبناء عنصراً من عناصر المواجهة الحضارية مع الصهيونية والغرب، وهي لا تنظر إلى حقوق المرأة بمعزل عن حقوق شعب بكامله، كما تفعل المنظمات النسائية الغربية والعربية التي تعزل حقوق المرأة عن حقوق الرجل وتصطنع معارك وهمية داخل الأسرة والمجتمع، فضلاً عن أن المرأة الفلسطينية توجد في طليعة المواجهة مع النموذج الغربي، وهو النموذج الذي يشكل الخلفية الفكرية والأيديولوجية للمنظمات النسائية ذات الطابع العلماني.
لقد أدت المرأة الفلسطينية أدوارًا جليلة في الدفاع عن القضية الفلسطينية داخل فلسطين وخارجها، واحتضنت المقاومة منذ اليوم الأول لبدء تسلل الصهيونية إلى فلسطين، حيث قدَّمت نموذجاً للشهادة في سبيل الدين والمقدسات، فكان إنشاء الاتحاد النسائي العربي في القدس في العشرينيات من القرن الماضي، الذي أدى دوراً في تحسيس المرأة الفلسطينية بالقضية وأبعادها؛ وبرز هذا الدور مع كفاح الأسيرات الفلسطينيات في السجون الصهيونية، من خلال الإضرابات عن الطعام وتنفيذ أعمال العصيان ضد الاحتلال ورفع معنويات الفلسطينيين خارج أسوار السجون، وهو ما أبقى شعلة المقاومة حية داخل الأسر الفلسطينية طيلة عمر الاحتلال الصهيوني الذي سعى بكل جهوده إلى قهر عزيمة المرأة الفلسطينية دون نجاح.
إذ يعرف الاحتلال أن المرأة هي المحور الرئيس لحشد المواقف وضخ العزيمة في نفوس الرجال والشبان، وما يزعج الاحتلال هو رؤية المرأة الفلسطينية الأم والزوجة والأخت تزغرد لاستشهاد الشهداء من الأبناء والأزواج والآباء وارتقائهم، لأن تلك الزغاريد تظهر معدن المرأة الفلسطينية، وأن القتل والإجرام لم يفلَّا في عزيمتها على المقاوم؛ لذلك يرى بأن المرأة هي الجدار المنيع الذي يصطدم به مشروع الاحتلال.
وهو ما جربه الاحتلال الفرنسي لبلدان المغرب العربي، فقد كتب الطبيب والمفكر فرانز فانون -الذي رافق المجاهدين الجزائريين وكتب كثيراً عن الثورة الجزائرية- أن الاحتلال الفرنسي كان يركز بشكل أساسي على المرأة الجزائرية وقتل معنوياتها، فكان يريد تغريبها وإقناعها بنزع الحجاب كوسيلة لدمجها في مشروعه، لذلك قال قولته الشهيرة: «كلما سقط حجاب من على وجه امرأة جزائرية كان الاحتلال يتقدم خطوة».
من أجل ذلك يمكن فهم أن المسار الذي تقطعه المرأة الفلسطينية يسير في خط مضاد للمسار الذي تريد المنظمات النسائية العلمانية أن تسير فيه المرأة عموماً؛ فهي تسعى إلى خلق نموذج المرأة المتمرد على القيم وعلى الأسرة والزوج والولي، ومن الطبيعي أن يكون مشروعها مضاداً لمشروع المرأة الفلسطينية التي تتطلع إلى التحرير الكامل، وتدرك أن دورها يكمن في التحرير الثقافي والوجداني، كسند أساسي لمعركة المقاومة.