تمثل فكرة الرشد بوصفها تحقق الاستقامة، والسير في الأمور على النهج الأصلح في القيام على أمر الناس والأموال ومقدرات الأمة.
والحقيقة أن الدخول لفحص مقومات الحكم الرشيد مرهون بتحرير مفهوم الرشد في المعجمية العربية والقرآنية بوجه خاص، وفي هذا السياق تقرر المعجمية العربية أن الرشد هو الحسن، والاستقامة، وإصابة الحق، والاهتداء، ومعرفة الطريق، والاعتدال، والاقتصاد وعدم السرف، والتعقل، والبلوغ وحسن التصرف والوفرة العقلية والنفسية والتوفيق.
وكل هذه الدلالات اللغوية تشير إلى أن إدارة حياة الناس والقيام على تدبيرها وهو عين مفهوم الحكم، ولن تحقق مقاصدها في رعاية المجتمعات ما لم تستصحب هذه الدلالات التي تتحرك بها مادة الرشد في اللسان العربي.
الحكم الرشيد.. مفاهيم تراثية
تمتلك الأمة مجموعة فذة من المصادر الضابطة التي تمثل المرجعية الهادية لها في مسيرة تخطيطها وتهديها لخدمة ميادين الحياة، وفي هذا السياق؛ فإن مراجعة الكتاب العزيز بوصفه المرجعية العليا في الأمة التي أنتجت الحضارة وفجَّرت العلوم تمثل نقطة منهجية محورية.
الله تعالى سمَّى نفسه «الرشيد» وأسند إلى نفسه الحكم
إن الله تعالى سمَّى نفسه «الرشيد»، وأسند إلى نفسه الحكم فقال سبحانه: (لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص: 88)؛ أي له التصرف والتدبير وسياسة الناس، وخطر المسألة واضح من ربطها بالنطاق الاعتقادي التوحيدي في المبتدأ، وربطها بالمآلات والمصير الإنساني في المنتهى، وهذه أول مسألة مهمة في هذا السياق تقرر أن أول علامات الحكم الرشيد كما تقرر المفهومات التراثية صدوره عن رؤية توحيدية ينبثق من رعايتها، وتنتج في الأمة العمران الصادر عن تطبيقات التزكية التي ولدها اعتقاد التوحيد.
ينضاف إلى ذلك الهداية إلى ماهية الحكم الرشيد في الحضارة الإسلامية من خلال فحص دلالات اسم الله الرشيد، بوصفه الذي يهدي الخلق إلى طريق السداد والصواب، وما به صيد الفوز والنجاح، وتحقيق مرادات الله من خلقه.
وتأمل فعل الناجين في تاريخ الإسلام في كل نسخة على الأرض يكشف عن تواتر طلب الرشد في كل السياقات والمراحل، ولا سيما المراحل الضاغطة العاصفة المأزومة، ففي سورة «الكهف» يقول تعالى مبيناً سلوك الفتية المؤمنة عند هجوم الأخطار السياسية العاصفة: (رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) (الكهف: 10)، أي وفِّر القدرة على بلوغ الاستقامة والصلاح والتصرف السديد، لتحقيق النجاة، وقد جاءت الاستجابة من جنس مطلوبهم فقال تعالى: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً) (الكهف: 16).
وقد أنتج ذلك النظر في هذه الثلاثية بصورة أساسية حقلاً بالغ الأهمية عرف في تاريخ العلم في هذه الحضارة باسم حقل السياسة الشرعية، استطاعت أدبياته المتنوعة المتراكمة استخراج خصائص سياسة الجماهير بالحكم، وجردتها، وبسطتها في قواعد وقوانين مستقرة، توسعت في بيان ما يلي:
أولاً: خصائص الحكم الرشيد وقيامه على قواعد المنهج الوارد في الكتاب العزيز، بوصفه شرعة للناس تهدف إلى حزمة من القوانين والنتائج، هي: رعاية التوحيد، ورعاية التزكية، ورعاية العمران.
إدارة حياة الناس والقيام على تدبيرها هو عين مفهوم الحكم
ثانياً: خصائص الحاكم الرشيد، وما به يكون مؤهلاً لسياسة الناس، وهي الخصائص التي يلزم قيامها في بدنه ونفسه وعقله وأخلاقه.
ثالثاً: خصائص المؤسسات والوظائف المحققة لمقاصد الشريعة في سياسة الخلق، حتى وصل الأمر إلى التصنيف في بيان التوصيف الوظيفي للوظائف المتنوعة في الأمة، جاء بعض عنواناتها كاشفاً عن غايات استهداف الحكم الرشيد، من مثل كتاب «معيد النعم ومبيد النقم» للسبكي الفقيه الشافعي المصري (ت 771هـ/ 1369م)، وهو يجرد على التفصيل ما يلزم لكل وظيفة ومؤسسة في الأمة أن ينهض بها القائمون عليها.
الحكم الرشيد.. معالم معاصرة
وقد أضافت حركة العلم، وتطور العلوم السياسية والاجتماعية والإدارية إلى هذه القضية أنواعاً من الإضافات والتدقيقات جعلت من الحكم الرشيد موضوعاً مشمولاً بقدر كبير من الخدمة والعناية المعرفية.
وقررت الأدبيات المختلفة عدداً من الضوابط والمعايير المحققة لهذا النمط المنشود من الحكم في سياسة الناس، وقيادة المجتمعات، تمثلت فيما يلي:
أولاً: الصدور عن الشعور بالمسؤولية والنهوض بها، وقد تنوعت المسؤوليات لتحيط بالمسؤولية العلمية والأخلاقية، والمهنية، والوطنية.
ثانياً: الحركة على قاعدة الشفافية والوضوح في قيادة الجماهير، والقيام بالأعمال.
ثالثاً: إقرار مبدأ المساءلة وما يفرض استقرار مبدأ المراقبة.
رابعاً: الصدور عن مبدأ المشاركة بين القيادة (الحكم) والجماهير.
خامساً: الصدور عن الاستجابة لتطلعات الناس، واحتياجاتهم البيولوجية والعقلية والنفسية والاجتماعية.
الوعي بكرامة الإنسان وإرادة رعايتها.. الطريق لقيام الحكم الرشيد
وقد أشار عدد من المؤسسات الدولية المعنية في مقدمتها المفوضية السامية لحقوق الإنسان والحكم الرشيد في الأمم المتحدة، إلى أن الحكم الرشيد ينقاس بجملة من المعايير تجعل منه «عملية تقوم بموجبها المؤسسات والأفراد بتيسير الشؤن العامة، وضمان حماية الإنسان»، وقررت المفوضية نفسها أن الحكم الرشيد لكي ينهض بواجباته ويحقق غاياته، ويستصحب تسميته هذه لا بد له من أن يصدر عن حزمة الضوابط المؤسسة التالية:
أولاً: الاحترام الكامل للإنسان، وتكريمه، وهو مبدأ قديم عريق ورد في المرجعية العليا للأمة عندما قال الكتاب العزيز: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70).
ثانياً: القيام الكامل على سيادة القانون، وعدم التمييز بين الناس على أي أساس كان في الحقوق والواجبات.
ثالثاً: رعاية التعددية السياسية، والسماح بتداول السلطة على أساس الكفاءات وحيازة المؤهلات ورضا الجماهير.
رابعاً: الحركة المنضبطة بالقيم التي تعزز المسؤولية والتضامن والتكافل والتسامح، وعدم النبذ أو الإقصاء.
خامساً: التحرك على قاعدة استهداف الوفاء بالحقوق المختلفة الاقتصادية والثقافية والتعليمية والسياسية والتعبيرية.
سادساً: التحرك على قاعدة ضمان الحق في الصحة والسكن والغذاء والتعليم والعدالة والأمان، وما إليها ما يتوافق مع الكرامة الإنسانية التي كفلها الإسلام للناس.
والحقيقة أن كل واحدة من هذه الضوابط والمعايير تمتلك معززين ظاهرين لإمكان تحقيق الحكم الرشيد، وهذان الداعمان المعززان هما:
1- المنهج الثابت القويم الوارد في الكتاب العزيز الذي نهضت بتطبيقاته دولة النبوة وحكم الخلفاء الراشدين.
2- التجربة العملية المتكررة في التاريخ المحلي والإقليمي والعالمي.
ليبقى واضحاً أن حضور الوعي بكرامة الإنسان، وإرادة رعايتها؛ هو الطريق لقيام الحكم الرشيد في هذا العالم المأزوم!
_______________________
أستاذ اللغويات بكلية الآداب- جامعة المنوفية.