بعد أن أتم النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة، وفي ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد في غار حراء، إذ فوجئ بالوحي ينزل عليه.
ويحدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك الموقف فيقول: «فَجَاءَ المَلَكُ، فَقالَ: اقْرَأْ، فقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق)»(1)، ففي هذا الحديث بيان للقاء الأول بين الرسول صلى الله عليه وسلم وسيدنا جبريل عليه السلام، الذي نزلت فيه الآيات الأولى للقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في شهر رمضان المبارك، قال الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: 185)، وما أن نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أخذه بعزم وجدّ، وانطلق به يطبقه في حياته ويدعو الناس إليه.
وكانت له صلى الله عليه وسلم مع القرآن الكريم في شهر رمضان حال مختلفة عن غيره من الشهور، حيث كان يداوم على قراءته ومدارسته، ويدعو أصحابه إلى ذلك، ويؤكد لهم أن التقاء الصيام مع القرآن يحقق الشفاعة لمن التزم بهما، ففي صحيح الجامع، عن عبدالله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبدِ يومَ القيامَةِ، يقولُ الصيامُ: أي ربِّ إِنَّي منعْتُهُ الطعامَ والشهواتِ بالنهارِ فشفِّعْنِي فيه، ويقولُ القرآنُ ربِّ منعتُهُ النومَ بالليلِ فشفعني فيه، فيَشْفَعانِ».
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل للقرآن الكريم في رمضان مكانة خاصة وأولوية فريدة، ويدل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم، عن عبدالله بن عباس، قال: كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ.
وظل الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الحال في كل عام مرة، يدارس القرآن مع سيدنا جبريل، في كل ليلة من ليالي رمضان، فلا ينتهي الشهر إلا وقد انتهى الرسول صلى الله عليه وسلم من مدارسة ما نزل من القرآن، حتى كان العام الأخير من حياته صلى الله عليه وسلم، تمّت المُدارسة مرتين، ففي صحيح الجامع عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ جبريلَ كان يعارضُنِي القرآنَ كلَّ سَنَةٍ مرةً، وإنَّهُ عارضَنِي العامَ مرتينِ، ولا أراهُ إلَّا حضرَ أجلِي».
والناظر في معنى كلمتي المدارسة والمعارضة اللتين وردتا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القرآن مع سيدنا جبريل يجد أنهما تدلان على المشاركة والمعاونة، بمعنى أنهما يشتركان في القراءة، ويعين كل منهما الآخر على ضبطها وتمامها.
وقد دلّت على مشروعية المدارسة قوله تعالى: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران: 79)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما اجْتَمع قَوْمٌ في بَيْتٍ مِن بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بيْنَهُمْ؛ إِلَّا نَزَلَتْ عليهمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ»(2).
ولعل في هذا ما يدعونا إلى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في حاله مع القرآن الكريم في شهر رمضان، فلا نكتفي بالقراءة المنفردة، بل نضيف إليها قراءة المدارسة، التي تعني المفاعلة والمشاركة، يقال: تدارس القوم القرآن، إذا اجتمعوا على قراءته وتدبُّرِ معانيه.
فالمدارسة لا تتوقف عند إحسان القراءة والإعانة عليها، وإنما تمتد لتشمل حسن الفهم لها والعمل بها، ولهذا نجد في الحديث الشريف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن أجود بالخير من الريح المرسلة، يعني أنه دائم الجود والكرم لكل الناس، وإن ورود هذا الوصف مقترناً بمدارسة القرآن ليدل دلالة صريحة على أنه سلوك ناتج عن مدارسة القرآن الكريم.
ومن سلوكيات رسول الله صلى الله عليه وسلم الناتجة عن مدارسة القرآن الكريم التأثر به والبكاء عند سماعه؛ ففي صحيح البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود قال، قالَ لي النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ»، قُلتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قالَ: «فإنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمَعَهُ مِن غَيرِي»، فَقَرَأْتُ عليه سُورَةَ «النِّسَاءِ»، حتَّى بَلَغْتُ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) (النساء: 41)، قالَ: «أمْسِكْ»، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
وفي صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال: صَلَّيْتُ مع النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ البَقَرَةَ، فَقُلتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ المِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلتُ: يُصَلِّي بهَا في رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلتُ: يَرْكَعُ بهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا؛ إذَا مَرَّ بآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وإذَا مَرَّ بسُؤَالٍ سَأَلَ، وإذَا مَرَّ بتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ.. إنه صلى الله عليه وسلم يقف مع كل آية من آيات القرآن الكريم، يتدبرها ويتأثر بها ويطبق ما فيها.
من هنا يتبين أن حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع القرآن تتجلى في إحسان ودوام قراءته، وتدبره والتأثر والعمل به.
____________________
(1) صحيح البخاري (6982).
(2) صحيح مسلم (2699).