كان قادراً على أن يخاطب الكل بلغته، كان يعرف لغة الأزهريين، والعائدين من أوروبا، وأهل السُّنة والصوفية، والعمال والفلاحين.
وهذه سُنة دعوية تربوية، امتاز بها أصحاب الدعوات، وورثوها عن الأنبياء الذين أرسلوا بلسان أقوامهم، وأمروا أن يخاطبوهم على قدر عقولهم، ولقد ترجمت هذه القاعدة الدعوية القرآنية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أفعالاً وأقوالاً، وتوجيهات راشدة، ومواقف مؤثرة، كانت بمجموعها نبراساً في توجيه سلوكيات أصحابه وأتباعه.
ولقد أدرك الإمام هذا الدرس، ووعاه قلبه جيداً، فجاءت كلماته مطابقة للمقام الذي يكون فيه، يراعي ظروف المكان، وهوية المستعين، ومناسبة الحديث، ويستمد حديثه من صميم الواقع الذي يكون فيه، وينطلق فيه من معطيات البلد ومشكلاته وآماله وتطلعاته.
إنه ذات النهج الذي تنزل به كتاب الله الذي استقر حبه في قلبه مذ كان فتى يافعاً، فحفظ نصوصه، وسعى لتطبيق حدوده، وجاهد في سبيل ذلك، ولقي ربه شهيداً وهو على ذلك.
نعم لقد كان من أبرز مميزاته، رحمه الله، أن الله آتاه قدرة عجيبة في مخاطبة الناس على مختلف طبقاتهم، وثقافتهم وأعمارهم، كما يذكر أ. عمر التلمساني حين رافقه في زيارة إلى المدرسة العباسية الابتدائية، إذ خططت الشعبة هناك أن يلتقي بطلبة هذه المدرسة، فحين اكتمل جمع الطلاب، طلب الإمام من أ. عمر أن يتحدث إليهم، فأدهشه هذا الطلب، الذي اعتذر عنه بقوله: أتريد مني أن أتحدث إلى هؤلاء الأطفال؟! وأنا محام اعتاد أن يتحدث إلى القضاة والمستشارين، أما هؤلاء الأطفال فلا عهد لي بذلك.
فقال الإمام: «وهل الرجال إلا نبت هؤلاء الأطفال، الصغير تسترضيه بقطعة من الحلوى، والرجل تسترضيه بالكلمة الحلوة، والطفل يتعلق بأمه، والرجل يتعلق بزوجه، وكلتاهما امرأة، الطفل يحرص على كل ما وصل إلى حوزته، وهل يفعل الرجل غير ذلك، الطفل تستهويه «الحدوتة» الساذجة، لا يمل الاستماع إليها ساعات، والرجل تستهويه القصة الممتعة فلا يكف عن متابعة أحداثها حتى يأتي على آخرها، الطفل يعدو على ما في يد طفل أضعف منه، والرجل يسلب ما في يد من هم أضعف قوة وشأناً، إلا من رحم ربك».
إنه تحليل رائع، يدل على معرفة الرجل بالنفس وخباياها، بغض النظر أنى كانت هذه النفس، في جسم كبير أو صغير، ومن أدرك هذا وعرفه كان أملك لحديثه، وأقدر على اختيار ألفاظه، وأكثر تصرفاً به، وتنويعاً لمحطاته.
ثم وقف وتحدث للأطفال، فما طرفت عين لطفل، ولا ملَّ منهم واحد، ولا تشاغل عن الاستماع، ولا قام واحد منهم بحركة توقف ذلك الفيض الذي أمتعهم به فضيلته.
ومما يذكر أنه دعي، رحمه الله، ذات مرة إلى حفل بمناسبة المولد في بولاق، وكان هذا الحي يشتهر في ذلك الوقت بالفتوات والأقوياء، فكان حديثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم يدور حول معاني القوة، ومواقفها في حياته، فيذكر يوم أن جحش أبا جهل على بئر زمزم، وهما في ميعة الصبا، وعن ركانة أقوى أقوياء الجزيرة العربية، الذي لم يؤمن إلا بعد أن صرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، وعن مسابقته لأبي بكر، وعمر وسبقه إياهما.
وبيّن لهم كيف أن تلك القوة الجسدية الهائلة لم تأت إلا نتيجة للتمتع بقوة روحانية خارقة، والتزام كامل لأوامر الله، واجتناب نواهيه، وهكذا حتى إن أحد المستمعين من فرط إعجابه هتف قائلاً: «اللهم صلِّ على أجدع نبي»!
وكانت النتيجة الطبيعية أن بايع الكثيرون منهم فضيلة الإمام على الانضواء تحت لواء الجماعة.