تم التطرق في المقال السابق إلى مقدمات فتح الأندلس في القرن الأول الهجري الثامن الميلادي، وتبيّن أن المسار التاريخي في العلاقة بين أوروبا والإسلام والمسلمين له جذور عميقة، تعود إلى العلاقة بين دولة الإسلام في المدينة والإمبراطورية البيزنطية في الشرق التي تعتبر امتداداً للشرق المسيحي الروماني.
كما تبين أن فتح الأندلس -بوابة أوروبا من الجهة الغربية- رمضان 92هـ/ 711م كان نتيجة استنجاد طرف مسيحي في طليطلة بالمسلمين المتواجدين في شمال أفريقيا لتخليص الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا) من طاغية القوط لذريق (رودريك)، فكانت فرصة ذهبية استثمرها المسلمون الحريصون على التقدم في عملية الفتح بهدف نشر رسالة الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين، وكانت ثمرة هذا التزامن في المصالح صفحة جديدة من التاريخ الإسلامي المجيد، حيث استقر المسلمون في الأندلس 8 قرون، وصنعوا فيها حضارة عريقة يشهد لها التاريخ إلى زمننا الحاضر (نتطرق إلى الجانب الحضاري في مقال لاحق).
في هذا المقال، نتابع مسار الفتوحات الإسلامية في أوروبا خلال العهدين الأموي والعباسي.
تحديات فتح أوروبا مركز النفوذ الكنسي المسيحي
تجدر الإشارة إلى أن الحضور الإسلامي في أوروبا تأثر تاريخياً بالتقلبات السياسية التي شهدها العالم الإسلامي.
فقد تأسست الدولة الأموية عام 41هـ/ 661م بعد العهد الراشدي، وحكمت العالم الإسلامي انطلاقاً من دمشق عاصمة الشام، وكانت لهذه الدولة مآخذ وعيوب مقابل حسنات وإنجازات.
من بين إنجازاتها أنها أخذت على عاتقها نشر اللغة العربية في الأمصار التي فتحتها، حيث شهد العهد الأموي موجة من الفتوحات شرقاً إلى الهند والصين وغرباً إلى شمال أفريقيا والأندلس، ويرى مؤرخون أن هذه الموجة ليست نتيجة إرادة سياسية أموية بقدر ما هي رد فعل على توقف الفتوحات زمن الفتنة الكبرى في عهد الخليفة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وظهور فرقة الخوارج.
ومهما كان التقدير، تبقى للأمويين هذه البصمة التاريخية متمثلة في الفتوحات التي غيرت موازين القوى في ذلك الوقت.
لم يكن قرار دخول الأندلس يسيراً، حيث إن الجيوش الإسلامية كانت مضطرة إلى ركوب البحر من أجل الانتقال من القارة الأفريقية إلى القارة الأوروبية، ثم إن أوروبا كانت في القرن الثامن الميلادي مركز الوجود المسيحي الديني والسياسي الكاثوليكي في أغلبه، ولها قوة ونفوذ تحت رعاية الكنيسة ورجالها.
الأندلس البوابة الغربية لفتح أوروبا
جاء الفتح الإسلامي للأندلس في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك بن مروان، الذي وافق على دخول الجيوش الإسلامية إلى الأراضي الأوروبية، محذراً القائد موسى بن نصير الأموي من الوقوع في فخ، وعليه، قام هذا الأخير بإرسال جيش استكشافي بقيادة طريف بن مالك، قبل أن يأذن للقائد البربري طارق بن زياد بالشروع في فتح تاريخي لشبه جزيرة أيبيريا.
واستعداداً للزحف على جيش لذريق في كورة شذونة جنوب غرب إسبانيا، توقف القائد طارق بن زياد في جبل طارق (GIBRALTAR) الذي يُعرف بجبل كالبي (mont calpe) قبل الفتح الإسلامي، وكانت معركة «البحيرة» أو «وادي لكة» الفاصلة في أواخر رمضان عام 92هـ/ 711م، التي انتهت بالقضاء على قائدها الطاغية لذريق (رودريك) وهزيمة الجيش القوطي بما مهّد لسقوط دولة القوط الغربية وبداية العصر الإسلامي في الأندلس الذي امتد لثمانية قرون تقريباً حتى سقوط مملكة غرناطة عام 1492م.
خلال هذه القرون، شهدت الحياة السياسية في العالم الإسلامي تقلبات بين القوة والضعف، وبدون شك، كان وضع الولايات التابعة للخلافة الأموية صورة لوضع مركز الخلافة في دمشق، الأمر الذي ينطبق على الأندلس التي كانت ولاية تابعة للأمويين منذ الفتح الإسلامي عام 711م، وشهدت ما يسمى عصر الولاة الذين يتم تعيينهم غالباً من العرب والبربر سكان شمال أفريقيا.
ويقسم المؤرخون عهد الولاة بحسب طريقة الإدارة وطريقة الحكم إلى فترتين رئيستين مختلفتين تمامًا؛ فترة قوة نشر الإسلام في بلاد الأندلس ونشأة جيل المولَّدين من أبناء المسلمين المتزوجين بأندلسيات، وإلغاء الطبقية ونشر الحرية العقائدية، ومواصلة الفتوحات نحو بلاد الإفرنج، وتمتد فترة القوة الحضارية هذه حتى عام 123هـ/ 741م.
ثم جاءت الفترة الثانية، وهي فترة ضعف ومؤامرات ومكائد استمرت حتى سنة 138هـ/ 755م؛ أي مدَّة 15 عاماً، بالتزامن مع ظهور مؤشرات انحرافات سياسية للدولة الأموية انتهت بانهيارها بعد حوالي 3 عقود من المعارضة السرّية التي قادها العباسيون من سلالة العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
الحكم العباسي في بغداد مقابل الحكم الأموي في قرطبة
وهكذا تغيرت الخارطة السياسية في العالم الإسلامي، وتمكن العباسيون عام 132هـ/ 750م من الإطاحة عن طريق القوة العسكرية بإمبراطورية أموية مترهلة استطاعت أن تمد نفوذها شرقاً وغرباً.
تجدر الإشارة إلى أن سقوط الدولة الأموية في دمشق شرقاً عام 750م لا يعني نهاية الحكم الأموي، بل ترسّخ حكم الأمويين غرباً في الأندلس منذ عام 138هـ/ 756م وحتى عام 1031م بقيام الدولة الأموية في الأندلس التي تشكلت في إمارة ثم في خلافة تركت بصماتها في هذه الديار إلى اليوم، وفي هذه الفترة، استقر حكم الأسرة الأموية المباشر بداية من عبدالرحمن الذي يُعرف بـ«الداخل»؛ لأنه أول من دخل من الأمويين إلى الأندلس وحكمها مباشرة بإقامة إمارة أموية، تحولت إلى خلافة مستقلة روحياً عن الخلافة العباسية عندما أعلن الأمير عبدالرحمن الثالث نفسه أول خليفة في الأندلس، وبقي لمدة 34 عاماً بصفة خليفة من عام 316 – 350هـ/ 929 – 961م، ولقّب بـ«الناصر لدين الله».
ويسجل التاريخ أنه إذا كان الحكم الأموي في دمشق دشن النظام الوراثي في الحكم بعد تعيين الخليفة معاوية لابنه يزيد وريثاً له حوالي 680م، فإن الحكم الأموي في الأندلس فتح الباب لظهور كيانات سياسية مستقلة ومعارضة، بل معادية لمركز الحكم في بغداد عاصمة الدولة العباسية، كما هي الحال بالنسبة للدولة الأموية في الأندلس، ولحقتها دولة الأدارسة في المغرب الأقصى التي أسسها إدريس بن عبدالله المعروف بـ«إدريس الأول» عام 788م بعد خلافات حادة بين العباسيين والطالبيين أو العلويين نسبة إلى عليّ بن أبي طالب (سُنّة وشيعة)، ثم جاءت دولة المرابطين فالموحدين، وتواصل نهج الحكم المستقل عن مركز الخلافة في المغرب خلال العهد العثماني.
وأضاف القرب الجغرافي بين المغرب والأندلس بُعداً جديداً في تكريس العنصرين المشتركين بينهما؛ الاستقلالية والمعارضة للحكم العباسي متمثلاً في التداخل القوي في العلاقات السياسية بين الطرفين المغربي والأندلسي.
ووصل الأمر إلى نوع من الاندماج السياسي المفروض على الأندلس نتيجة الأزمات السياسية التي شهدتها بعد نهاية حكم الأمويين فيها عام 1031م وقيام دويلات منقسمة ومتنازعة فيما يُعرف بعصر ملوك الطوائف إلى أن دخلها المرابطون من المغرب وأعادوا توحيدها بعد انتصارهم على الإسبان في معركة «الزلاقة» عام 1086م بقيادة القائد البربري يوسف بن تاشفين، وبالتالي أصبحت منذ ذلك التاريخ وحتى عام 1214م ولاية تابعة لمراكش عاصمة المرابطين ثم الموحدين بالمغرب.
وبهزيمة الموحدين أمام الجيوش الأوروبية المتحالفة في موقعة «العقاب» عام 609هـ/ 1212م، تراجع وضع تبعية الأندلس سياسياً للمغرب، وانتهى بقيام فترة ملوك طوائف ثانية، ونجحت القوات المسيحية في إطار ما يسمى بإعادة الاحتلال في إسقاط هذه المملكات الواحدة تلو الأخرى، وبعد صمود دام حوالي قرنين، سقطت مملكة غرناطة عام 1492م، وبسقوطها انتهى الحضور الإسلامي السياسي في الأندلس وبقيت الآثار شاهدة على حضارة عريقة.
دولة الأغالبة والإشعاع الحضاري
مقابل النزعة الاستقلالية المعارضة للحكم العباسي في بغداد، قامت إمارات مسلمة مستقلة في إدارتها السياسية مع احتفاظها بالولاء للعباسيين، ومن بين هذه الإمارات الدولة الأغلبية في إفريقية (تونس اليوم) التي حكمت من عام 800 إلى 909م وأسهمت بعمل حضاري رائد؛ سياسياً ودينياً.
سياسياً، حافظت على القوة السياسية للأمة غرباً في منطقة المغرب الإسلامي، في الفترة الأولى من العهد العباسي بإحداث نوع من التوازن بين بغداد العباسية شرقاً وقرطبة الأموية في الأندلس والأدارسة في المغرب الأقصى، فكانت القيروان عاصمة الأغالبة مركزاً سياسياً للإسلام في موقع إستراتيجي بين أفريقيا وآسيا.
دينياً، أسهمت الدولة الأغلبية في نشر العلم الديني، وكان من بين علمائها الأفذاذ أبو عبدالله أسد بن الفرات بن سنان قاضي القيروان، الذي كان يدرّس الفقه المقارن بعد أن تتلمذ على الفقيه مالك بن أنس في المدينة، وعلى أبي يوسف والشيباني (مذهب أبي حنيفة) في بغداد، وهو صاحب «الأسدية في فقه المالكية» الذي يعتبر مرجعاً أساسياً في نشر هذا المذهب في المغرب الإسلامي والأندلس، ومن تلامذته الإمام سحنون بن سعيد.
فتح صقلية وجنوب إيطاليا في العهد العباسي
ومن أهم إنجازات الدولة الأغلبية مواصلة الفتوحات الإسلامية في اتجاه أوروبا، وتجدر الإشارة إلى أن الفقيه والقاضي أسد بن الفرات هو الذي أوكل إليه حاكم الدولة زيادة الله بن إبراهيم شرف مهمة فتح صقلية، فعينه أميراً على الجيش، وكان التنافس شديداً بين الراغبين في المشاركة في هذا الشرف، فخرج الفقيه المجاهد أسد بن الفرات بـ900 فارس و10 آلاف راجل، ووصل بعد 5 أيام إلى مرسى مزارا جنوب غرب صقلية الموافق يوم الثلاثاء 18 ربيع الأول 212 هـ/ 17 يونيو 827م وفتحها وهزم البيزنطيين، توفي أسد بن فرات بمرض الطاعون أثناء حصاره لمدينة سرقوسة في الساحل الجنوبي الشرقي لصقلية، وذلك في شهر ربيع الثاني 213هـ/ 828م.
وتواصلت عملية الفتح ليصل الجيش المسلم إلى جنوب إيطاليا، واستقر المسلمون في صقلية لمدة قرنين تركوا فيها بصمتهم الحضارية بعد أن كانت مركزاً للتبشير المسيحي في الغرب.
وهكذا دخل المسلمون إلى أوروبا من البوابة الجنوبية في العهد العباسي وتحديداً زمن الدولة الأغلبية، بعد قرن ويزيد (711م – 827م) من دخولهم إلى إسبانيا من البوابة الغربية في العهد الأموي.
وجاء الفتح الثاني ليكمل الفتح الأول، ويفتح صفحة جديدة في علاقة أوروبا بالإسلام والمسلمين.