أورد ابن رجب الحنبلي في كتاب «لطائف المعارف» أن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه كتب رسالة إلى أهل الأمصار، يأمرهم فيها بختم شهر رمضان بالاستغفار وصدقة الفطر؛ فإن صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، والاستغفار يُرَقع ما تخرق من الصيام باللغو والرفث.
وقال ابن عبدالعزيز في كتابه(1): قولوا كما قال أبوكم آدم عليه السلام: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف: 23)، وقولوا كما قال نوح عليه السلام: (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (هود: 47)، وقولوا كما قال إبراهيم عليه السلام: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء: 82)، وقولوا كما قال موسى عليه السلام: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) (القصص: 16)، وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء: 87).
ففي هذه الرسالة توجيه إلى الاستغفار بعد أداء عبادة الصيام، ولا يقتصر الأمر بالاستغفار بعد الصيام، بل إن الناظر في القرآن الكريم يجد أن الله تعالى قد أمر بالاستغفار بعد أداء المناسك في الحج، حيث قال تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة: 199).
كما جمع الحق سبحانه وتعالى عدداً من العبادات العظيمة في آية واحدة ثم أعقبها بالدعوة إلى الاستغفار، حيث قال تعالى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المزمل: 20).
بل إن الله تعالى أمر رسوله بالاستغفار في أواخر ما نزل من القرآن الكريم، حيث قال تعالى: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ {1} وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً {2} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (النصر)، ولهذا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم أن يختم حياته بالاستغفار، ففي صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ يقولُ عندَ وفاتِه: «اللَّهم اغفِر لي وارحَمني وألحِقني بالرَّفيقِ الأعلَى»، وكان صلى الله عليه وسلم يستغفر الله بعد الصلاة، ويقول: «أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله»(2)، وأخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن جلسَ في مجلِسٍ فَكَثرَ فيهِ لغطُهُ، فقالَ قبلَ أن يقومَ من مجلسِهِ ذلِكَ: سُبحانَكَ اللَّهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إلَهَ إلَّا أنتَ أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ، إلَّا غُفِرَ لَهُ ما كانَ في مجلِسِهِ».
فما السر في الدعوة إلى الاستغفار في ختام أغلب العبادات؟
لقد أوضح ابن تيمية أن الِاسْتِغْفَار يُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنْ الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ، إلَى الْفِعْلِ الْمَحْبُوبِ مِنْ الْعَمَلِ النَّاقِصِ إلَى الْعَمَلِ التَّامِّ وَيَرْفَعُ الْعَبْدَ مِنْ الْمَقَامِ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى مِنْهُ وَالْأَكْمَلِ؛ فَإِنَّ الْعَابِدَ لِلَّهِ وَالْعَارِفَ بِاَللَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَلْ فِي كُلِّ سَاعَةٍ بَلْ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ يَزْدَادُ عِلْمًا بِاَللَّهِ. وَبَصِيرَةً فِي دِينِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ بِحَيْثُ يَجِدُ ذَلِكَ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَنَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ وَقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَيَرَى تَقْصِيرَهُ فِي حُضُورِ قَلْبِهِ فِي الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةِ وَإِعْطَائِهَا حَقَّهَا فَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِغْفَارِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ؛ بَلْ هُوَ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ دَائِمًا فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَحْوَالِ فِي الغوائب وَالْمَشَاهِدِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصَالِحِ وَجَلْبِ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّاتِ وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي الْقُوَّةِ فِي الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الْيَقِينِيَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ(3).
وهنا يتبين أن الاستغفار بعد العبادة يكون لأسباب متعددة، منها: معالجة الخلل الحاصل أثناء أداء العبادات، ورفعة الدرجات، ويظهر تفصيل ذلك فيما يأتي:
أولاً: معالجة الخلل الحاصل أثناء أداء العبادات:
قد يقع في العبادة من وساوس الشيطان أو الانشغال عنها ما ينقص أجرها وثوابها، وهنا يأتي دور الاستغفار في تعويض النقص وجبر الخلل، ويدل على هذا ما رواه البيهقي عن أبي هريرة أنه قال: «الْغِيبَةُ تَخْرِقُ الصَّوْمَ، وَالِاسْتِغْفَارُ يُرَقِّعُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَجِيءَ غَدًا بِصَوْمِهِ مُرَقَّعًا فَلْيَفْعَلْ»(4).
ثانياً: رفعة الدرجات:
قد تقع كاملة لكن الله يريد أن يرفعها إلى درجة أعلى، فيكون الاستغفار للارتقاء في الدرجات، وفي هذه الدرجة تقع مقامات الأنبياء والصالحين والأولياء، فالناظر في القرآن الكريم يجد أن الاستغفار سمة الأنبياء، فهذا سيدنا آدم عليه السلام وحواء يقولان: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف: 23)، وهذا سيدنا نوح عليه السلام: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا) (نوح: 28)، وهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام يقول: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء: 82)، وهذا سيدنا موسى عليه السلام يقول: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الأعراف: 151)، ويقول: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) (القصص: 16)، وهذا سيدنا يونس عليه السلام: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء: 87)، وقد أمر الله سيدنا محمداً بالاستغفار فقال: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (محمد: 19).
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يداوم على الاستغفار ويحث عليه، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، استغفروا الله وتُوبُوا إليه، فإنِّي أستغفر الله وأَتُوبُ إليه في اليَومِ أكْثَرَ مِن سَبْعِينَ مَرَّةً»، وفي رواية: «فإنِّي أَتُوبُ في اليَومِ إلَيْهِ مِئَةَ مَرَّةٍ».
والاستغفار من صفات المؤمنين الذين يقيمون الليل ثم هم يستغفرون، وفيهم قال الله تعالى: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) (آل عمران: 17)، وقال عز وجل: (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات: 18)، فما استغفار الأنبياء والأولياء إلا لرفعة درجاتهم ورقيهم في أعلى المقامات.
ثالثاً: كسر غرور النفس:
قد تقع العبادة كاملة، لكن يصيب العبد غرور بعد أدائها، فيكون الاستغفار كسراً للنفس وذلاً لها، حتى يبقى العبد بين الخوف والرجاء، ويعلن الافتقار الدائم إلى الله.
__________________________
(1) لطائف المعارف، ابن رجب الحنبلي، ص 66.
(2) رواه مسلم (591).
(3) مجموع الفتاوى، ابن تيمية (11/ 696).
(4) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/ 316)، برقم (3644).