كانت الرغبة في الحديث عن الفريعة بنت مالك بن سنان هزيلة شاحبة، وبسرعة تعمقت الرغبة في الوقوف معها، حيث بدت أهميتها أكثر مما نتصوره، وأجبرتنا على النظر إليها بالعقل والقلب.
ولئن توجه اهتمام نظرنا في البدء إلى نسبها، وإلى الشجرة التي شبت هي كفرع من فروعها لتبدى لنا جانب من جوانب عظمتها.
فأبوها هو مالك بن سنان بن عبيد الأنصاريّ الخُدْريّ، شهد «أُحداً»، وصعد يومذاك شهيدًا في موكب الشهداء، بعد أن مص الدم عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم وازدرده، قال ابنه أبو سعيد الخُدْرِيّ: أصيب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم «أُحد»، فاستقبله مالك بن سنان؛ يعني أباه، فمصَّ الدم وجهه ثم ازدرده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه دمي فلينظر إلى مالك بن سنان»(1).
وقال ابن الأثير في «أسد الغابة»: وطوى مالك بن سنان ثلاثًـا، ولم يسأل أحدًا شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن ينظر إلى العفيف المسألة فلينظر إلى مالك ابن سنان».
وأمها حبيبة بنت عبدالله بن أُبَيّ بن سلول، وربما يقول قائل: جاءت أمها من بيت عز وشرف لا ريب لولا اتباع أبيها لسلطان هواه، حتى بات منافقاً موسوماً بالنفاق، ونقول: ليس هذا فحسب، بل إنه كان كبير المنافقين.
ولكن لا تثريب على الفريعة، فما وقع في الذهن نفاق جدها عبدالله بن أُبيّ إلَّا وتعقبه إخلاص خالها عبدالله بن عبدالله بن أُبيّ، وما انحنى لسان بلائمة على حسد جدّها للنبي صلى الله عليه وسلم إلَّا وانحنى حامدًا على حب خالها للنبي صلى الله عليه وسلم، بطل يوم «اليمامة» وشهيده، عاش واستشهد كواحد من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم جميعًا.
وأخوها أبو سعيد الخُدْريّ الذي طار ذكره في الآفاق كأحد كبار الصحابة وفضلائهم، وأحد السبعة المكثرين من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي يوم «أُحد» كانت الفُـرَيْـعَةُ بنت مالك تترقب الأخبار، وتترصد شواردها مثلها مثل النساء والفتيات اللاتي راحت دقات قلوبهن تهز ضلوعهن حذرًا وقلقًـا، واستشهد أبوها وهبَّ الخبر عليها كشظية لفحت وجهها وفؤادها، ولكنها ما زالت تترقب الأخبار وقد تمددت مساحة القلق في نفسها، ربما كانت تنتظر خبر أخيها أبي سعيد؟ لا، فقد استصغره النبي صلى لله عليه وسلم يوم «أُحد» وردَّه وهي بلا ريب تعلم ذلك من أمره، ففيمَ قلقها المتزايد؟
ويقترب منها أخوها، ينعى إليها أباها قائلاً: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «آجرك الله في أبيك»، فاحتسبت الفُـرَيْـعَةُ أباها الشهيد، ودارت بذهنها عبارة أخيها: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم، إذًا فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يُصب بسوء.
أجل، طمأنها أبو سعيد على سلامة النبي صلى الله عليه وسلم، لكأنَّها قالت في نفسها ما قالته كبشة بنت رافع(2) للنبي صلى الله عليه وسلم لما علمت باستشهاد ولدها عمرو بن معاذ: أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتويت(3) المصيبة.
استشهد مالك بن سنان رضي الله عنه مُخَلِفًا صبية صغارًا بلا عائل يتولى أمرهم، أو مال يغنيهم من فقر، وتنهدت الفريعة في أسى، ولم تر من ملجأٍ سوى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت لأخيها أبي سعيد: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله لنا، فوالله لا يخيب سائله لأنك منه بإحدى اثنتين؛ إمَّا أن يكون عنده فيعطيك، وإمَّا ألا يكون عنده فيقول: «أعينوا أخاكم».
وامتثل أبو سعيد ومضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، ولمَّا كان على قيد خطوات منه سمعه يقول: «من يستعفف يعفَّه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله»(4)، كلمات مثيرة تقوي العقيدة، وترفع القدرات، وتُكْسِب الإنسان الثقة بالنفس، والقدرة على التفكير الهادئ.
كان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس عطاء، وأجودهم نفسًا، ولكنه الآن يركز على الجانب التربوي في منهج يسنَّه لصنع الرجال، وتنمية الطاقة الكامنة لديهم والدافعة إلى الكسب والتربح، كلمات تعني ملكية الإنسان للقدرات، وما عليه إلَّا البحث عنها وإجادة استغلالها؛ «من يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله».
سمع أبو سعيد الكلمات النبوية الشريفة، ولكأنَّ انفجارًا وقع بجواره بغتة فحدث نفسه: ثكلتك أمك سعد بن مالك(5)، والله لكأنَّك أُرِدتَ بهذا، ثم أكمل حديث نفسه متمثلًا النبي صلى الله عليه وسلم أمامه: لا جرم، والذي بعثك بالحق لا أسألك شيئاً بعدما سمعت منك، فجلست، فلمَّا فرغ رَجَعْتُ وفريعة تقبل وتدبر وقد بلغ منها الجوع مبلغاً.
لنتأمل المشهد ونتألم مع أبي سعيد، والفريعة، جلس أبو سعيد واستمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد لأخته، فوجدها رائحة جائية تضغط بيديها على بطنها، علَّ ألم الجوع يسكن عنها قليلًا فقد مر بها الوقت بطيئاً يُثْقِله لسع الجوع وحرارته، وما فتئت أمعاؤها تتقلص وتمور تسأل عن شيء يملؤها.
ولمحت الفريعة أخاها عائداً بيدين خاويتين، فَبُـهِـتت وسألته: ما لك؟ فوالله ما يخيب سائله! فأخبرها بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فانتفضت تسأله: وسألته بعد ذلك؟ فأجابها عاجلًا: لا، فردت في عِفَّـةٍ لا تُضَارع، ولا تُنَـاظر: أحسنت.
ولم لا تقول هكذا، وتبدو كذلك؟! أليست ابنة مالك بن سنان الذي طوى(6) ثلاثة أيام وما سأل أحداً شيئاً، ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم ما كان من أمره قال: «من أراد أن ينظر إلى العفيف المسألة، فلينظر إلى مالك بن سنان»؟!
وطوت الأسرة الطيبة صابرة على وخز الجوع ولسعه، وما كان الله عز وجل ليدعهم على هذه الحال، فيضيف أبو سعيد: فلما كان من الغد فإني والله لأتعب نفسي تحت الأجم(7) إذ وجدت من دراهم يهود، فابتعنا به وأكلنا، ثم والله ما زال النبي صلى الله عليه وسلم محسنًا، فما سألت أحدًا بعده شيئاً فجاءت الدنيا، فما من أهل بيت من الأنصار أكثر أموالاً منا.
أجل، ما كان عز وجل ليدع من تطلعوا إلى ما عنده، وزهدوا فيما عند غيره فرزقهم من حيث لم يحتسبوا، وأكثر مالهم بسرعة تعدت آمالهم، عفوا فأعفهم الله، واستغنوا فأغناهم، لتزهو الأسرة الطيبة وتزدهي ببهجتها الناتجة عن العفة والاستغناء.
وظلت الفريعة رضي الله عنها تعمل لدنياها وآخرتها، تعمل لكل منهما عملها، ولما استنفر النبي صلى الله عليه وسلم الناس من حوله للخروج إلى مكة معتمرين في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة خفَّت الفريعة لأداء العمرة معه صلى الله عليه وسلم، وكان من أمر قريش ما كان وبايعت الفريعة بيعة الرضوان، فنالت البشارة الإلهية: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (الفتح: 18)، ونالت البشارة النبوية: «لا يدخل النار من أصحاب الشجرة أحد»(8).
وهكذا لم تكن الفريعة بنت مالك بن سنان بالمسلمة العادية، وكذلك عاشت في ذاكرة التاريخ الإسلامي الأمين، فقد ألمت بحياتها نازلة آلمتها وقتذاك أشد الألم، ولكنها أكسبتها مكرمة كبرى، وأنالتها الذكر والخلود في سماء الإسلام، ونفوس المسلمين.
تحكيها رضي الله عنها فتقول: إنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدْرَة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له(9) أبقوا(10)، حتى إذا كانوا بطرف القدوم(11) لحقهم فقتلوه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أرجع إلى أهلي فإنه لم يتركني في مسكن يملكه، ولا نفقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم»، فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فَدُعِيتُ له، فقال: «كيف قلت؟»، فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي فقال صلى الله عليه وسلم: «امكثي في بيتكِ حتى يبلغ الكتاب أجله»(12).
فاعتددت فيه(13) أربعة أشهر وعشرًا، فما كان من عثمان بن عفان إلَّا وأرسل إليّ فسألني عن ذلك فأخبرته(14)؛ أي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما ولِّي الخلافة، بعث إليها وسألها عن حكم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وَحَكَمَ رضي الله عنه به.
وبه حكم كبار الصحابة، وظل حديثها رضي الله عنها هو عمدة الأحاديث في هذا الباب، لينفع الله به الإسلام والمسلمين كحكم صحيح لهذه المسألة الفقهية مصدره النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي رحاب المدينة الطيبة، ولألاء العمل الصالح عاشت الفريعة بنت مالك ما شاء الله لها أن تعيش، وهي من تلكم الصحابيات الفضليات اللاتي لا يُـعرف تاريخ وفاتهن.
وقيل: إنها عاشت إلى الخلافة الراشدة، ثم أبحرت روحها إلى البشرى النبوية الميمونة(15).
________________________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (6/ 41)، وابن عساكر في التهذيب (6/ 112)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2097).
(2) أم سعد بن معاذ، راجع قصتها كاملة في «نساء تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم» للمؤلف، ط المكتبة التوفيقية.
(3) هانت على المصيبة واستقللتها.
(4) حديث صحيح، أخرجه البخاري (1400)، ومسلم (1053).
(5) اسمه سعد، وكنيته أبو سعيد، وغلبت عليه كنيته.
(6) الطوى: الجوع، والمقصود أنه ظل جائعاً ثلاثة أيام حتى لا يسأل غيره.
(7) الشجر الكثير الملتفّ.
(8) حديث صحيح، أخرجه مسلم (2496).
(9) عبيد.
(10) هربوا.
(11) اسم موضع.
(12) حتى تنتهي عدتها.
(13) في بيتها.
(14) حديث صحيح، أخرجه النسائي (6/ 199)، وصححه الألباني.
(15) الإصابة (7651)، أسد الغابة (4601)، (7206)، دلائل النبوة للبيهقي (6/ 290، 291).