إن الحقيقة المرة التي يتجرعها المسلمون الآن تعكس ضعفهم، وتفصح عن نكوصهم وهوانهم أمام أعدائهم، كما يجري اليوم في فلسطين الحبيبة، حيث آلة الحرب التي تنهش جزءاً غالياً عزيزاً من جسد هذه الأمة، دون أن يتداعى له باقي أجزاء هذا الجسد، الذي الأصل فيه أنه إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء الأخرى بالسهر والحمى.
لقد مرت بالمسلمين فترات استرخاء وترف أنستهم واجبهم تجاه دعوتهم ونهضة أمتهم التي هي سبب قوتهم وعزتهم، فأخلدوا للراحة والفتور والقعود، وغفلوا عن السنن الكونية والاجتماعية التي تنظم حركة الكون، وحركة الاجتماع البشري، فحق عليهم قول الله: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد: 38).
لقد واجه المسلمون فترات عصيبة، وتكالب عليهم الأعداء، وأغاروا على بلادهم من كل حدب وصوب، ونهبوا ثرواتهم واستحلوا أعراضهم، فعاش المسلمون بين ضغط التهديد الخارجي والخذلان الداخلي؛ فأصابهم الضعف والوهن، وأصبحنا نعيش ونرى بأم أعيننا ما أخبرنا به نبينا محمد ﷺ منذ عشرات القرون في حديثه الشريف حين قال: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: أومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال ﷺ: «بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت».
وإذا تأملنا في معنى «غثاء السيل»؛ فإن به جملة من أسباب الضعف والخور، فغثاء السيل فاقد للبوصلة ليس له قبلة ولا وجهة ولا هوية، كما أنه يفتقر إلى النظام، وفيه معنى الخلاف، فليس بين أجزائه رابط، وغثاء السيل تبعٌ لحركة الماء.
ثمة حالة من اليأس والرجاء تسيطر على مشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها نتيجة عوامل شتى تمر بها الأمة في تلك الفترة العصيبة، فلا شك أن متابعة خريطة واقع العالم الإسلامي السياسية تثير في القلب الكثير من الشجن والحزن من صروف الزمان بالأمة الإسلامية، وما صار إليه المسلمون من ضعف وهوان، بعد تمكين وعزة، ومن سقوط وتبعية بعد استقلال ونهوض، ومن خوف وانهزام بعد شجاعة وإقدام، حيث المعاناة والتخلف الشديدين في مقومات الحضارة من الريادة والقيادة، وحالة من القصور والجمود في جنبات العلوم والثقافة والاقتصاد، ويسبق كل ذلك منعطف خطير يتمثل في فقدان للهوية وأزمة أخلاقية طاحنة، تعاني منها أمة كريمة بحجم أمة محمد ﷺ، مما يترك في القلب والنفس آثاراً سلبية تدفع الكثير إلى قنوط مزموم، وفتور لا يليق بخير الأمم؛ قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 110).
ولقد بكى أبو الدرداء عند فتح قبرص، فقيل له: أتبكي في يوم نصر الله فيه دينه وأعز فيه جنده؟! فقال رضي الله عنه: ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.
ولا شك أن الحالة التي خاف منها أبو الدرداء هي ما وصلنا إليها الآن! فهل أصبحت أمة المليارين حقاً غثاء كغثاء السيل؟! أم أن هناك أملاً لهذه الأمة للنهوض من كبوتها هذه، ويستعيد المسلمون دورهم الريادي والطليعي بين الأمم كما كانوا من قبل؟!
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نحن أمة لا ننتصر بالعدة والعتاد، ولكن ننتصر بقلّة ذنوبنا وكثرة ذنوب أعدائنا»، نعم فنحن أمة تنتصر بطاعتها لله واتباعها لرسولها، وتنكسر بعصيانها لله وبعدها عن دينه وشريعته وهداه، ولعل في هذا اختصاراً وإجمالاً فريداً لأسباب الريادة والسقوط في آن واحد.
وما أحوجنا إلى قراءة تاريخ أمتنا بتأنٍّ وروية لاستخلاص الدروس والعبر وإيجاد الدواء لأمراض أمتنا العضال!
إن مقومات قيام واستقرار واستمرار المجتمع الإسلامي هي تلك القيم العليا الحاكمة التي شكلت الأرضية الثابتة التي يبني عليها الإسلام الكيان الاجتماعي، ومحور الإسلام التقوى والعمل الصالح، وهي أسس قيام المجتمع الإسلامي، قيم جعلت من تلك الأمة خير الأمم، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، وقال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (البقرة: 285)، تلك القيم التي تحافظ على هوية المجتمع ووحدته وتماسكه وولائه وانتمائه من العبث، تلك القيم العقدية التي حررت الفكر والروح فامتد الإسلام نتيجة لهذه العقيدة وقيمها ونظامها وتلبيتها للفطرة البشرية وجعلت من المسلمين أمة واحدة وجسداً واحداً، وحققت الاستقرار النفسي للفرد وجعلته مستعداً للتضحية في سبيل الله، وأسهمت بتماسك المجتمع وحققت التكافل الاجتماعي فيه والريادة بين الأمم لتصبح النموذج والقدوة.
وفي ظل ما تعيشه أمتنا وما تواجهه من نوازل كبرى، يتحتم علينا أن نعود إلى جذورنا العقدية ونعض عليها بالنواجز، وأن نقرأ تاريخنا قراءة متأنية، كي نعي أسباب سيادتنا وريادتنا، فإنه لن ينصلح حال آخر الأمة إلا بما صلح به أولها، فتعود الحضارة الإسلامية لسابق عهدها في الريادة والقيادة ليس فقط بما تفرزه من مجتمع إسلامي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بل وبما تقدمه للبشرية جمعاء.
إن قمة الحضارة تتمثل في قدرة الإنسان على إقامة علاقة سوية ومتينة مع الله، والبشر الذين يعيش معهم وكذلك البيئة بكل ما فيها من ثروات، وكلما زادت هذه العلاقة سمواً؛ زادت الحضارة رقياً وتقدماً، وكلما قلت هذه العلاقة وضعفت؛ صار الإنسان متخلفاً ومنحدراً.
وبهذه المقاييس يمكننا أن نوصف كلمة الحضارة توصيفاً دقيقاً، ليس كالذي نسمعه هنا وهناك، فكثير من الدول التي يطلق عليها دولة متحضرة؛ في معسكر الشرق والغرب، ربما تكون متقدمة في تحقيق بعض جوانب الحقوق للإنسان والحيوان ونحو ذلك، ولكنها قد تكون متخلفة في تحقيقها لأهم الضوابط الأخلاقية داخل أو خارج مجتمعاتها، وبهذا تكون قد تخلقت في أهم محور من المحاور الثلاثة؛ وهو علاقتها بربها.
وبهذه المقاييس يتضح جلياً لكل ذي لُب أن الحضارة الإسلامية هي الحضارة الوحيدة في هذا الكون التي حققت التفوق في العلاقات الثلاث، فاستحقت أن تبلغ قمة الرقي والريادة والتفرد في كل الجوانب، عن غيرها من الحضارات المنقوصة، فحضارة الإسلام لم تكن تهتم بالمسلمين فحسب، بل كانت رحمة للعالمين، يقول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107).
والخير باقٍ في أمة محمد ﷺ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهذه الأمة تمرض لكنها لا تموت، وما أحوجنا إلى لحظة صدق مع الله، وأن نعلم علم اليقين أنه لا عز لنا إلا بالإسلام، فمتى ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، وإذا ما تركنا الجهاد كتب الله علينا ذلاً لا ينزعه حتى نرجع إليه.