لم تكن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة مجرد تحوّل من بلد إلى بلد، إنما كانت إيذانًا بعهد جديد يصبح فيه للإسلام دولة وقوة، توفر له عوامل نشر نور الرسالة إلى العالمين.
المرحلة المكية كانت تأهيلاً للفرد وإعلاء لصرح الإيمان في النفوس، بينما جاء عهد الهجرة إلى المدينة لينطلق بهذه الثلة المباركة إلى تحقيق رسالة الإسلام التي خلدها التاريخ على لسان ربعي بن عامر، وهي إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
لذا، حاز المهاجرون الأوائل فضائل جمة لأنهم تركوا الديار والأموال لله، وكانوا أصحاب الهبّة في وقت الاستضعاف.
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»(1).
فالهجرة من مكة إلى المدينة فرارًا بالدين قد انتفت منذ الفتح، لأن مكة صارت ديارًا للإسلام ولم تعد ديار كفر.
على الرغم من ذلك، قد بقيت معاني الهجرة باقية، يتعاطاها كل مؤمن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويتاح لنا جميعًا أن نكون مهاجرين.
نهاجر بتجديد العهد مع الله تعالى في شأن العبودية، ونكون كما أراد الله عباده أن يكونوا، فكما كانت الهجرة الأولى تغيّراً من حال إلى حال، فكذلك هجرتنا الجديدة تكون بمفارقة دائرة الذنوب وترك الإصرار عليها والعودة إلى الله تعالى، وذلك ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»(2).
ومن تمام هذا المعنى أن يتحول المرء من نطاق الإعداد إلى البذل، فلا يكتفي بأن يتلقى ويكتسب المهارات والمعارف والعلوم إلى نطاق البذل والعمل المثمر والتغيير في مجتمعه، وهذا ما حدث مع المهاجرين الأوائل، كانوا في مكة تحت قيد الإعداد والتربية وكف الأيدي، وفي المدينة بعد الهجرة حولوا ما اكتسبوه من مضامين التربية والإعداد إلى إجراءات وخطوات عملية من أجل بناء المجتمع الجديد.
يهاجر المسلم بإيثار الشأن العام للأمة ودينها عن الشأن الخاص، وإلزام نفسه بالتضحية بالغالي والنفيس من أجل دينه وأمته، فهجرة الصحب الكرام تضمنت هذا المعنى، تركوا الديار والأموال والضيعات من أجل هدف أسمى وأعلى؛ وهو الفرار بالدين وإقامة هذا الصرح الذي تنطلق منه الرسالة إلى العالمين، فنحن في عصر غلب عليه شعار «أنا، ومن بعدي الطوفان»، فعلت أصوات الأنا والمنافع الفردية، وتضاءل الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع والأمة.
ومن معاني الهجرة الجديدة إصلاح النية والمتاجرة بها مع الله تعالى كما جاء في الحديث المتقدم: «ولكن جهادٌ ونيّة»، يقول النووي في شرح الحديث: معناه أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة ولكن حصلوه بالجهاد والنية الصالحة وفي هذا الحث على نية الخير مطلقاً، وأنه يثاب على النية(3).
فالنية الصالحة عبادة عظيمة، وبها يبلغ العبد ما لا يبلغه بالعمل، وحسبك في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ»(4)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ»(5).
فينبغي أن يوجه العبد نيته دائماً للخير، ويحرص على أن ينوي البر والطاعة في كل أحيانه، لينال بذلك أجر العمل وإن لم يستطع القيام به.
ومن خلال الحديث نتعرف على كون الجهاد في سبيل الله هو الهجرة الجديدة، الجهاد بمعناه الشامل الذي يشمل الجهاد بالنفس والمال والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى إضافة إلى مجاهدة النفس، الجهاد بمعناه الصافي الذي نزل بتشريعات ربانية محكمة، لا الجهاد الذي تلبس بالظلم والجور وإهدار الدماء المعصومة بدعوى الجهاد في سبيل الله تعالى.
والأمة في أحوج ما تكون إلى إعادة روح الجهاد في سبيل الله وقد تكالب عليها أعداؤها، وليس عنا ببعيد ما يحدثه العدو الصهيوني بأهلنا في قطاع غزة من تدمير وإهلاك للحرث والنسل والإبادة الجماعية، فلا عذر لأحد في القعود عن نصرتهم، ولو بالعمل الإغاثي ومقاطعة منتجات الصهاينة وأعوانهم، ونشر معاناة أهل غزة وجرائم العدو الصهيوني للتعريف بها.
إن الهجرة ليست مجرد حدث تاريخي، وإنما هي عبودية لله لا تنقطع وإن اختلفت صورها، وعلى المسلم أن يجعل منهاجه في الحياة «إني مهاجر إلى ربي».
__________________________
(1) صحيح البخاري (2783)، وصحيح مسلم (1353).
(2) صحيح البخاري (6484).
(3) شرح النووي على صحيح مسلم (13/ 8).
(4) صحيح مسلم (1911).
(5) صحيح مسلم (1909).