لا يمكن فهم ما يجري في السودان إلا من خلال فهم جذور التآمر الغربي الاستعماري على كل من أفريقيا والعالم العربي والإسلامي، فالسودان البلد العربي الأفريقي يقع بين مطرقة التآمر على أفريقيا، وسندان التآمر على العالم العربي والإسلامي، ويمكن فهم المسألة فهماً أعمق إذا ما أخذنا في الاعتبار أيضاً التآمر الظاهر والخفي على الإسلام نفسه كدين.
في عام 1884م دعت ألمانيا مختلف القوى الدولية لحضور مؤتمر في برلين، وانعقد المؤتمر في الفترة من 15 نوفمبر 1884م إلى 26 فبراير 1885م، وقد حضر المؤتمر 15 دولة أوروبية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ بهدف تسوية وترتيب الظروف المناسبة من أجل تنمية التجارة والحضارة في مناطق معينة من القارة الأفريقية.
كان من نتائج المؤتمر إعلان الحماية على الصومال عام 1884م، وقد كانت من المناطق التابعة لمصر، وضمت بتسوانا لاند وجنوب أفريقيا ونيجيريا وأفريقيا الشرقية (البريطانية!) وغينيا وسيراليون وساحل الذهب، وأعلنت حمايتها على أوغندا في عام 1894م، وبسطت نفوذها على السودان باسم مصر.
من نتائج مؤتمر برلين عام 1884م إعلان الحماية على الصومال التي كانت من المناطق التابعة لمصر
تقول سابيل كرو، أستاذة القانون الدولي: إن المؤتمر حاول أن ينظم العلاقات بين القوى الاستعمارية على أسس قانونية محددة، ولكن الذي حدث هو التأسيس لتكالب استعماري على الموارد ومناطق النفوذ في القارة الأفريقية، وقد أسفر في النهاية عن احتكار الدول الكبرى للتجارة في المناطق الخاضعة لنفوذها.
حرب على الإسلام
وكان من نتائج مؤتمر برلين أن اعترف بالحبشة كقوة محلية أفريقية، لكونها مملكة نصرانية، وأعطاها الحق في استباحة أراضي الإمارات الإسلامية التي كانت تتركز على الساحل الأفريقي، وقتذاك، التي كانت تعرف بإمارات الطراز الإسلامي، وعلى إثر ذلك، ظهرت الحبشة كقوة إقليمية كبرى في المنطقة، وتم تحويل اسمها إلى إثيوبيا، على يد الإمبراطور منليك (1889 – 1913م) الذي بزغ نجمه بمساعدة الدول الأوروبية.
وفي هذا الإطار، قام المستعمرون الأوروبيون بعد مؤتمر برلين بفصل شرقي أفريقيا عن الجزيرة العربية، وفصل غرب أفريقيا عن المغرب العربي، وفصل جنوب السودان عن شماله، وهكذا شكل السودان مجالاً حيوياً للحرب على الإسلام.
واستكمالاً لمؤتمر برلين، جاء مؤتمر «كامبل بنرمان» الذي عقد في لندن عام 1907م؛ ليقنن النهب الأوروبي للعالم وخصوصاً العالم الإسلامي، وقد صنف المؤتمر العالم 3 أصناف:
الأول: العالم المسيحي الذي يضم الدول الغربية الاستعمارية مع الولايات المتحدة ودول شمال أمريكا وأستراليا.
الثاني: الدول التي ينبغي احتواؤها كاليابان وكوريا.
السودان من أغنى الدول العربية والأفريقية فقد تم اكتشاف ثروات مهمة فيه بالسنوات الأخيرة
الثالث: يضم الدول العربية والإسلامية ودول العالم الثالث، التي تتميز بتواجدها على رقعة إستراتيجية تتمتع بالمواد الخام التي يمكن الاستفادة القصوى منها، ويربطها ببعضها دين واحد ولغة واحدة، هذه الدول التي يجب أن تبقى متخلفة ومفككة ومحتاجة إلى العالم المسيحي بشكل دائم، لضمان أقصى انتفاع الدول الاستعمارية من ثرواتها، ولضمان عدم اتحادها فيما بينها وقيامها تحت قيادة واحدة.
موارد للنهب لا للشعب
يحتل السودان موقعاً إستراتيجياً مهماً على البحر الأحمر جنوب مصر، وله حدود جغرافية مع 7 بلدان أفريقية أخرى: مصر، ليبيا، تشاد، أفريقيا الوسطى، جنوب السودان، إثيوبيا، إريتريا.
يعد السودان من أغنى الدول العربية والأفريقية، فقد تم اكتشاف ثروات مهمة فيه خلال السنوات الأخيرة، إذ ينافس احتياطيه من البترول احتياطيات السعودية، كما يحتوي على حقول مهمة من الغاز الطبيعي وكميات من اليورانيوم على درجة كبيرة من النقاء، إضافة إلى كميات كبيرة من النحاس.
يلخص آفي ديختر، وزير الأمن الداخلي «الإسرائيلي» الأسبق، في محاضرة ألقاها في عام 2008م، الرؤية الإستراتيجية الصهيونية تجاه السودان بقوله: إن إضعاف السودان واستنزاف طاقاته وقدرته يعتبر واجباً وضرورة من أجل تعظيم قوة «إسرائيل» وإعلاء منعتها في مواجهة الأعداء، وهو ما يحتم عليها استخدام الحديد والنار تارة، والدبلوماسية ووسائل الحرب الخفية تارة أخرى.
مسؤول صهيوني: إضعاف السودان واستنزاف طاقاته وقدراته ضرورة من أجل تعظيم قوة «إسرائيل»
وقال: إن السودان، بموارده ومساحته الشاسعة، من الممكن أن يصبح دولة إقليمية قوية، وإنه يشكل عمقاً إستراتيجياً لمصر، وهو ما تجسّد بعد حرب عام 1967م، عندما تحول إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري والقوات الليبية، كما أنه أرسل قوات مساندة لمصر في حرب الاستنزاف عام 1968م، وبناء عليه، بحسب ديختر:
–يجب ألا يسمح لهذا البلد بأن يُصبح قوة مضافة إلى قوة العرب.
– لا بدَّ من العمل على إضعافه وانتزاع المبادرة منه لمنع بناء دولة قوية موحدة فيه.
– سودان ضعيف ومجزأ وهشّ أفضل من سودان قوي وموحّد وفاعل.
– ما سبق يمثّل من المنظور الإستراتيجي ضرورة من ضرورات الأمن القومي «الإسرائيلي».
ينهي ديختر محاضرته قائلاً: أريد أن أنهي تناولي للمحور السوداني في هذه المحاضرة بتأكيد أن إستراتيجيتنا التي ترجمت على الأرض في جنوب السودان سابقاً وفي غربه حالياً استطاعت أن تغير مجرى الأوضاع في السودان نحو التأزم والتدهور والانقسام.
وأضاف: أصبح يتعذر الآن الحديث عن تحول السودان إلى دولة إقليمية كبرى وقوة داعمة للدول العربية التي نطلق عليها دول المواجهة مع «إسرائيل»، فالسودان في ظل أوضاعه المتردية والصراعات المحتدمة في جنوبه وغربه وحتى في شرقه غير قادر على التأثير بعمق في بيئته العربية والأفريقية؛ لأنه متورط ومشتبك في صراعات ستنتهي إن عاجلاً أو آجلاً بتقسيمه إلى عدة كيانات ودول.
هذا ما صرح به ذلك الصهيوني، فمتى ننتبه لما يدبَّر، ونخطط لا كما خططوا لنهب مقدرات الشعوب، ولكن للتصدي لمؤامراتهم وإحباطها محافظة على شعوبنا ومقدراتنا؟!
_______________________
1- حلمي محروس إسماعيل: تاريخ أفريقيا الحديث والمعاصر من الكشوف الجغرافية إلى قيام منظمة الوحدة الأفريقية.
2- الدليمي خالد عبد نمال: بسمارك ودوره في رسم السياسة الخارجية الألمانية 1871 – 1890م، مجلة كلية الأدب، العدد (98)، الجامعة الإسلامية.
3- أحمد بن صالح الظرافي (مؤتمر برلين 1884م، حين اعتبر الأوروبيون أفريقيا أرضاً مستباحة).
4- أوراق من التاريخ (1): وثيقة كامبل بنرمان وتفتيت الوطن العربي، شريف منصور.
5- محاضرة لآفي ديختر، وزير الأمن الداخلي «الإسرائيلي» الأسبق، ألقاها في عام 2008م.