الحرب التي تدور رحاها في السودان، منذ منتصف أبريل 2023م، ليست معزولة عن سياق تاريخي طويل عاشه هذا البلد الأفريقي – العربي منذ ما قبل استعماره في عام 1889م، ثم استقلاله بعد الحرب العالمية الثانية، لكن هذه الحرب تختلف بدرجة كبيرة من كل الحروب الأهلية التي عرفها السودان ودفع إنسانه ثمنها في استقراره ومآلات مستقبله، وهذا ليس فقط لكونها الحرب الطويلة الوحيدة التي شهدتها عاصمة البلاد، وألحقت بها من الدمار ما ألحقت، ولكنها أيضاً لارتباطها بكثافة التدخلات الخارجية والأجندات المتداخلة فيها.
في هذا المقال، سنحاول أن نعطي تفسيراً لهذا السياق الذي نتحدث عنه، وهو سياق تتداخل فيه الأجندات الداخلية والخارجية وتتشابك خيوطه.
ظل الصراع والتنافس بين المسيحية والإسلام حاضراً في السودان، بوجه من الوجوه، في كل التدخلات الخارجية وتأجيج الصراعات في هذا البلد ذي الموقع الجغرافي المتميز والغني بثرواته، ومتعدد الثقافات والأعراق والديانات، وظلت جذوة الحمية الإسلامية فيه متقدة؛ لذا لم يكن مستغرباً أن يشهد السودان «ثورة المهدي» ذات الهوية الإسلامية والأسلوب الجهادي (1881 – 1889م)؛ فأسقطت الحكم التركي – المصري الذي كان قد أسقط السلطنة الزرقاء أو مملكة سنار الإسلامية، وقتل الثوار المهديون الجنرال البريطاني غردون باشا، حاكم عام السودان آنذاك.
الضغوط الاقتصادية والسياسية الغربية والأمريكية على السودان ظلت حاضرة حتى في فترة الحكم الديمقراطي
كان يمكن للهوية الإسلامية واللغة العربية أن تتمددا في أفريقيا عبر السودان الذي كان أكثر بلد مؤهل لذلك، لكن الاستعمار البريطاني الذي أتى في أعقاب الحروب الصليبية فطن لذلك مبكراً، وبعد أن أسقط الدولة المهدية بعد غزوها في عام 1889م إثر التعاون مع حكم الخديوي في مصر، عمد إلى إصدار ما عرف بـ«قانون المناطق المقفولة» الذي حددت بمقتضاه مناطق في السودان يُحرم على الأجانب والسودانيين دخولها أو الإقامة فيها دون تصريح رسمي، وشمل القانون 7 مناطق متفرقة من السودان في دارفور وكردفان وجنوب السودان.
ومن مظاهر ذلك القانون حرمان السوداني الشمالي من إنشاء المدارس في الجنوب إذا سمح له بالإقامة فيها، وإذا تزوج بامرأة جنوبية فلا يستطيع أخذ أطفاله عند عودته إلى شمال السودان، وفي عام 1922م انحصر قانون المناطق المقفولة على جنوب السودان، وفي عام 1930م صدرت أحكام هدفها منع التجار الشماليين من الاستيطان في الجنوب، ووقف المد الثقافي العربي والدين الإسلامي من الانتشار في جنوب السودان، بل إن ارتداء الأزياء العربية التقليدية كالجلباب والعمامة كان محظوراً على الجنوبيين!
لكن هذه السياسة تم التخلي عنها فجأة بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديداً عام 1946م، ولكونها قد استمرت لأكثر من 30 عاماً فقد أحدثت شرخاً عميقاً في نسيج المجتمع السوداني، قاد لاحقاً إلى الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في 3 جولات من الحروب؛ بدأت الأولى في أغسطس 1955م قبيل الاستقلال بتمرد تم إخماده في حينه، والثانية في عام 1963م استمرت 9 سنوات، والثالثة في عام 1983م استمرت 20 عاماً وانتهت باتفاقية «سلام شامل» قادت إلى استفتاء تقرير مصير للجنوبيين اختاروا على إثره أن تكون لهم دولتهم المستقلة.
الدورة الخبيثة
وطوال عمر الحكم الوطني في السودان، الذي استمر زهاء 70 عاماً حتى الآن، لم تشهد البلاد حكماً مستقراً، ولم تجز برلماناتها المنتخبة دستوراً دائماً، وظل التقلب بين نظام ديمقراطي تعددي ونظام شمولي ذي طابع عسكري تطيح به ثورة شعبية تعقبها فترة انتقال قصيرة، ثم انقلاب مرة أخرى، يشكل ما اصطُلح على تسميته بـ«الدورة الخبيثة»، فقد شهد السودان عقب استقلاله قيام برلمانات منتخبة 3 مرات أتت بحكومات تعددية أطاح بكل واحد منها انقلاب عسكري (1958، 1969، 1989م)، ثم أطاحت 3 ثورات شعبية (1964، 1985، 2019م) بالأنظمة التي وصفت بالشمولية، أعقب ذلك فترة انتقال قصيرة وهكذا.
حينما تكشفت الهوية الإسلامية لحكم الرئيس البشير بدأت الضغوط الغربية على النظام لكي يغير من توجهاته
لكن اللافت في كل هذا الاضطراب السياسي أن موضوع الهوية الوطنية وعلاقة ذلك بالثقافة العربية والدين الإسلامي ظلا حاضرين، وظلت الضغوط الاقتصادية والسياسية الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً تتوالى على السودان، حتى في عهد الحكم الديمقراطي الذي أعقب سقوط نظام الرئيس نميري، حيث اشتدت المطالبة بإلغاء قوانين الشريعة الإسلامية، ولم يتوقف كذلك تدفق الأسلحة على متمردي الجنوب بقيادة جون قرنق حتى تمت الإطاحة بالحكم الديمقراطي (1986 – 1989م) حين استولى الرئيس عمر البشير على السلطة في انقلاب عسكري ثبت لاحقاً أن الجبهة الإسلامية القومية وقفت وراءه ودعمته، بدافع منع وقوع البلاد في أيدي المتمردين الذين بدؤوا يزحفون شمالاً تدعمهم القوى الخارجية التي لا تريد حكماً ذا توجه إسلامي أو حتى استقلالي في السودان.
وحينما تكشفت الهوية الإسلامية لحكم الرئيس البشير (1989 – 2019م) الذي تصادف وصوله للسلطة مع انهيار المعسكر الشرقي وتفكك الاتحاد السوفييتي، وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة العالم، ومعها حلفاؤها الغربيون، سرعان ما بدأت الضغوط الكثيفة على النظام الجديد في السودان لكي يغير من توجهاته أو تتم محاصرته والإطاحة به.
واستغلت أمريكا الأخطاء الجسيمة التي وقع فيها النظام، فضربت عليه حصاراً اقتصادياً استمر 27 عاماً، وحصاراً دبلوماسياً ساعد في عزله عن جواره القريب والبعيد، وأسهم في احتضان معارضيه الشماليين بواسطة جيرانه، فضلاً عن توسيع دعمه للتمرد المسلح الذي تجاوزت مناطق سيطرته حدود المديريات الجنوبية إلى مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان، المحسوبة على الشمال، وحتى قبيل الاقتراب من الوصول إلى اتفاق السلام الشامل في عام 2005م برعاية أمريكية بريطانية نرويجية، نجحت جماعات ضغط غربية في إشعال الفتنة في دارفور بين من أسموهم القبائل ذات الأصول الأفريقية، وتلك المسماة ذات الأصول العربية من عرب الرزيقات الذين ينتمي إليهم محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد «قوات الدعم السريع».
بعثة «يونيتامس»
كانت البعثة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور (يوناميد) تكاد تنهي مهامها في دارفور، عندما تمت الإطاحة بنظام «الإنقاذ» في أبريل 2019م، ولتقديرات تخص رؤية السلطة الجديدة في السودان، بجناحيها العسكري والمدني، أرسل رئيس الوزراء عبدالله حمدوك خطاباً للأمين العام للأمم المتحدة يطلب منه إرسال بعثة أممية تحت «البند السادس» لـ«دعم الفترة الانتقالية في السودان»؛ فوافق مجلس الأمن الدولي على الطلب، وفي قرارين متتابعين تم إنهاء تفويض بعثة «يوناميد» وتكليف الألماني فولكر بيرتيس بترؤس بعثة محدودة العدد «يونيتامس» ولكن بصلاحيات واسعة، لتسهم في دعم الانتقال الديمقراطي في السودان.
الخطة التي أشرفت عليها بعثة الأمم المتحدة (يونيتامس) كانت تهدف لتفكيك وإعادة هيكلة الجيش السوداني
الطريقة التي أدار بها بيرتس بعثته عززت الانقسام الداخلي في السودان، إذ عمد إلى عزل كل من شارك حزب المؤتمر الوطني في الحكم خلال العقود الثلاثة الماضيةً، فضلاً عن الحزب نفسه، وعزز من الانقسام الداخلي محاولة السلطة المدنية الجديدة في الخرطوم في محاولات لإعادة هندسة المجتمع السوداني؛ سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فألغت عدداً من القوانين والتشريعات الإسلامية، وسمحت بالربا في البنوك، وبدأت في تغيير المناهج الدراسية بحجة تخفيف الأعباء الدينية الإسلامية منها؛ مما زاد من التوتر والانقسام السياسي الداخلي.
لكن الأخطر من هذا هو الخطة التي أشرفت عليها بعثة الأمم المتحدة لدعم الفترة الانتقالية، وفُسرت على نطاق واسع بأنها تهدف لتفكيك وإعادة هيكلة الجيش السوداني، بحجة أنه «جيش النظام الإسلامي» الذي تمت الإطاحة به، وذلك على قرار ما فعله بول بريمر في العراق، وإن اختلفت الطريقة والأسلوب، وكان مفهوماً أن الولايات المتحدة الأمريكية وبعض حلفائها في الإقليم هم مَن يقفون وراء هذه الخطة!
الاتفاق الإطاري
ولكي تنجح هذه الخطة، كان لا بد من إحداث انقسام داخل الصف العسكري؛ أي بين القوات المسلحة السودانية و«قوات الدعم السريع»، وهنا يرجح على نطاق واسع أن البعثة الأممية مدعومة بقوى خارجية، ومعها القوى المدنية التي كانت حاكمة على أساس وثيقة شراكة دستورية مع الجيش، وبعد أن فضّ الجانب العسكري هذه الشراكة وانفراد بالسلطة في 25 أكتوبر 2021م، هي مَن أشرفت على وضع ما عُرف لاحقاً بـ«الاتفاق الإطاري»، الذي هندس عمليتي العزل السياسي وتفكيك وإعادة هيكلة الجيش السوداني، وكانت من نتائج التحضير له، استقطاب قيادة «قوات الدعم السريع» إلى جانب هذا المشروع، حيث وُعدت -على أرجح الاحتمالات- أن تكون هي أساس الجيش الجديد، الذي ستعاد هيكلته ليحمي الديمقراطية والحكم المدني!
«يونيتامس» بتدخلها بالشأن الداخلي أرادت أن تعيد السودان إلى مصاف الدول الدائرة في الفلك الغربي والعلماني
وعلى الرغم من مظاهر التوتر والحشد العسكري الذي قامت به «قوات الدعم السريع»، منذ ديسمبر 2022م، وزيادة احتمالات المواجهة المسلحة بين الجيش السوداني تلك القوات، فإن البعثة الأممية برئاسة بيرتس، التي أتت أساساً للمساعدة في حل المصاعب التي قد تواجه فترة الانتقال، لم تحرك ساكناً، بل يعتبرها الكثيرون أنها -وبتأثير من قوى دولية وإقليمية- قد صبت الزيت على النار بتدخلها الكثيف في الشأن الداخلي السوداني، وبتعمدها عزل قوى سياسية وازنة داخل المجتمع السوداني، وأنها تريد بفعلها هذا، وبدعم خارجي مباشر، أن تعيد السودان إلى مصاف الدول الدائرة في الفلك الغربي والعلماني، وتعزز العلاقة مع «إسرائيل»، وتؤسس لقطيعة بين المجتمع والنظام السابق ذي الصبغة الإسلامية.
وهكذا قاد هذا كله إلى توتر أقصى بلغته الأحداث في 12 أبريل 2023م عندما توجهت قوة عسكرية مدججة بالسلاح من «قوات الدعم السريع» إلى مطار مدينة مروي، شمالي السودان، حيث توجد قوات من سلاح الطيران المصري في مهام تدريبية، وما لبثت الأوضاع أن انفجرت بعد 3 أيام من ذلك حيث، هاجمت «الدعم السريع» المقار العسكرية للجيش السوداني في العاصمة وعلى رأسها القيادة العامة للقوات المسلحة، حيث يقيم رئيس مجلس السيادة والقائد العام واستشهد في تلك المعركة أكثر من 30 ضابطاً وجندياً كانوا في حراسته.
كادت الحرب الآن أن تكمل شهرها الثامن عشر، وإن كان من شيء إضافي ميزها بشكل سافر، غير الفظائع والجرائم والانتهاكات التي حدثت فيها، فهو كثافة التدخل الخارجي في تأجيجها، وخاصة الإمداد بمختلف أنواع الأسلحة والذخائر والمتحركات، وكثافة تجنيد المقاتلين المرتزقة من دول غرب أفريقيا وشرقها، وحتى من جنوب السودان، للمشاركة في القتال بجانب «قوات الدعم السريع»، وقد وثقت لهذا بعثة خبراء الأمم المتحدة لمراقبة تدفق السلاح على دارفور والمنشأة بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1591) الصادر في عام 2007م، التي تقدم تقاريرها الدورية إلى الأمين العام ومجلس الأمن، فضلاً عن توثيقه عن طريق تقارير عدد من مؤسسات الإعلام الدولية معتمدة على صور الأقمار الصناعية.