قد يبدو العنوان غريباً لأول وهلة تقع عليه عينك ويقرع فيها سمعك، ويتبادر إلى الذهن هذا السؤال: أيمكن أن يكون القميص زاهداً؟! ولكن تزول الغرابة وتنقشع عندما تتصفح وجوه الناس من حولك فتراه سابغاً على كثير منهم، فهذا يتابع بين الحج والعمرة ويتقاضى رشوة، وذاك يصوم فرضاً ونفلاً ويتعامل بالربا، وآخر يحرص على مجالس ذكر الخالق وينقض العهود والعقود مع المخلوق، يجتنب بعض المنكرات والمكروهات ولا يتورع عن النيل من الآخرين ولمزهم بالعبارات والإشارات، سمت إسلامي يوافق السُّنة ويسبح وسط بحر لجي من البدعة، هذا تدين ظاهري فقط يأخذ ما يوافق هواه ويدع ما سواه.
قال بعض أهل العلم: ومنهم متصنع في الظاهر، ليث الشرى في الباطن، يتناول في خلواته الشهوات، وينعكف على اللذات، ويري الناس بزيه أنه متصوف متزهد وما تزهد إلا القميص(1)!
التدين.. بين المظهر والجوهر
أركان الإسلام الخمسة أعمدة الدين وفوق الأعمدة بناء، ولا يمكن أن يستمر بناء بلا أعمدة كما لا ينبت زرع بدون غرس، والدين هو جوهر الوجود وروح الحياة، وإن كان الإسلام نطق باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، فإن التدين الحقيقي يشمل الظاهر والباطن، والجوهر والمخبر، والقول والعمل، والاعتقاد والسلوك، فالتدين عمق لا سطح جبل لا سفح، قال تعالى (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام 162).
يقول الشيخ محمد الغزالي: عندما يتحول التدين إلى حركات بدن، وإتقان شكل؛ فإن حقيقته تضيع وغايته تبعد أو تتلاشى، المعنى الأصيل للتدين أن يكون حركة قلب ويقظة فكر، أما المراسم الجوفاء والصورة الشاحبة فلا دلالة لها على شيء، ومن عجز عن تصحيح قلبه ولبه فهو عما سواهما أعجز، ويوم يتولى عملاً ما في المجتمع فسوف يكون نموذجاً للفشل لأنه لن يدفع تيارات الحياة إلى حيث يجب، بل ستدفعه هذه التيارات إلى حيث تشاء، وهنا الهزيمة الشنعاء للدين والدنيا(2).
فاجعة الفواجع
التدين الشكلي المغشوش آفة ممقوتة تعصف بالأعمال الصالحة فتجعلها كالعهن المنفوش ظاهرها رواء، وباطنها خواء، جاء في الحديث الصحيح: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس؟»، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمَّتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتَم هذا، وقذف هذا، وأكَل مال هذا، وسفَك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإنْ فَنِيَتْ حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار»(3).
عند مطالعة هذا القبس النبوي الشريف يدور بالخاطر سؤال مفاده: كيف يكون مفلساً من أتى بصلاة وهي نور، وزكاة وهي برهان، وصيام ينتظره عند باب الريان؟! والجواب أن هذا المسكين ورد الآخرة مفلساً لأنه جعل بضاعته في يومه وليله بلسانه وأنامله الكلام في أعراض الناس إساءة وخسفاً وتخويناً ونسفاً (شتم، قذف، أكل أموال الناس بالباطل، سفك وضرب)، لقد عاد هذا المسكين إلى ربه من رحلة الحياة صفر اليدين كاسف البال خائب الرجاء.
يقول ابن القيم: تجد الرجل يتورع عن القطرة من الخمر، أو من استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة، ولكنه يطلق لسانه في الغيبة والنميمة في أعراض الخلق كما يحكي أن رجلاً خلا بامرأة أجنبية فلما أراد مواقعتها قال: يا هذه، غطي وجهك فإن النظر إلى وجه الأجنبية حرام(4)! تناقض غريب وعجيب أن يأتي المرء بثلاثة من أركان الإسلام ومبانيه العظام ويقابلها بجبال من المنكرات والآثام، هذا عين الإفلاس.
التدين الأجوف!
من طريف ما زخرت به كتب السير عن الأصمعي أن بلالاً بن أبي بردة وفد على عمر بن عبدالعزيز وهو بخناصرة، فلزم سارية المسجد يصلي إليها يحسن الركوع والسجود والخشوع وعمر ينظر إليه، فقال عمر للعلاء بن المغيرة البندار، وكان خصيصاً بعمر (يعني مستشاراً له): إن يكن سر هذا كعلانيته فهو رجل أهل العراق غير مدافع عن فضل، فقال له العلاء بن المغيرة: أنا آتيك يا أمير المؤمنين بخبره، فأتاه وهو يصلي بين المغرب والعشاء فقال له: اشفع صلاتك فإن لي حاجة، فلما سلم من صلاته قال له العلاء: تعلم منزلتي وموضعي من أمير المؤمنين وحالي، فإن أشرت عليه أن يوليك العراق ما تجعل لي؟ قال: عمالتي سنة، وكان مبلغها عشرين ومائة ألف درهم، قال: فاكتب لي خطاً بذلك، فقام من وقته فكتب له خطاً بذلك فحمل ذلك الخط إلى عمر بن عبدالعزيز، فلما قرأه عمر كتب إلى واليه على الكوفة: أما بعد، فإن بلالاً غرنا بالله فكدنا أن نغتر به، ثم سبكناه فوجدناه خبثاً كله(5).
وفي القصة دروس تربوية ودعوية، منها:
أولاً: التدين الذي لا ينعكس أثره في السلوك تدين أجوف، وهذه صورة من صور التدين الزائف الذي هو أصل من أصول النفاق، فلا نعجب حينما نرى الصلاة مظهراً أنيقاً لمحتال، والحج عباءة اجتماعية مرموقة لوضيع، وأعمال البر ستاراً يجلب الثناء لرقيع، فما أكثر هؤلاء الذين يخلعون دينهم على عتبات المساجد، وكم خدعتنا المظاهر عن مكنون الجواهر!
ثانياً: المستشار الأمين العادل نعمة من الله على الصادقين وحائط صد لمجابهة أفعال المنافقين والمحتالين؛ «أنا أتيك يا أمير المؤمنين بخبره»، وكان من الممكن أن يأخذ المستشار المال ويحقق للرجل ما يريد، ولكنه يعلم أنها أمانة، وأنها خزي وندامة إلا من أدى حق الله فيها، وانظر كيف ألهمه الله الذكاء والفطنة ليخرج معدن الرجل.
ثالثاً: لله ما أفقه أمير المؤمنين وما أعقله حين قال: «إن بلالاً غرنا بالله فكدنا أن نغتر به ثم سبكناه فوجدناه خبثاً كله»؛ فإن الكبار يرجعون إلى الحق حين تلوح بين أيديهم أعلامه، ويحققون العدل حين تتفتح بين أيديهم معالمه، لذا عزف أن يقلده منصباً أو أن يسند إليه عملاً، فالمهام الجسام لا ينهض لها إلا العظام.
________________________________
(1) صيد الخاطر، ص 42.
(2) علل وأدوية، ص 205.
(3) رواه مسلم (2581).
(4) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، ص 70.
(5) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (1/ 271).