تتمايز رؤية القرآن المعرفية الكونية عن الرؤية الغربية الوضعية، ويمكن بيان ذلك من خلال ثلاثة نظم أساسية، هي: نظام رؤية الوجود أو العالم، ونظام الطبيعة والإنسان، ونظام القيم والأخلاق، وهي باختصار كما يلي:
1- رؤية العالم:
تقوم رؤية العالم في المنظومة الغربية على فكرة المرجعية الكامنة؛ أي أن العالم كافٍ بما فيه ومن فيه، ولا يحتاج إلى أي تفسير خارجي عنه، لأنه يحمل عناصر تفسيره داخليًا كما حمل عناصر تكوينه أيضًا، ومن ثم فالعالم واحد وليس اثنان، هو كل مشهود ومحسوس ومعيار مقياسه الإنسان، وأن مركز الكون كامن فيه وليس متجاوزًا له، وهذا يعني أن الإله غير موجود ولا علاقة له بالمنظومات المعرفية والأخلاقية والدلالية والجمالية، فالعالم يوجد داخله ما يكفي لتفسيره، وجميع هذه المنظومات يتم تأسيسها وتطويرها بالعودة إلى هذا العالم وهذا الزمان وحسب.
والعالم –أيضًا- مادي متماسك وفي حالة حركة دائمة مستمرة، والعالم مكون إما من ذرات تائهة (حب الرؤية الآلية للكون)، أو كيان عضوي مصمت متماسك (حسب الرؤية العضوية)، أو خليط بينهما، والعالم يتسم بالسببية الصلبة الكاملة، بمعنى أن لكل شيء سبباً مادياً(1).
أما رؤية العالم في منهج القرآن فتقوم على التباين في نظرتها بين عالمي الخلق والخالق الله سبحانه وتعالى، ولا تجمع بينهما، حيث إن هناك عالـمًا من الفوارق بين إنسانية الإسلام والإنسانيات الأخرى، حيث يقوم التصور الإسلامي على مبدأ الثنائية كجوهر للخبرة الدينية، وهذا معرفيًا يفضي إلى تصور مستويين من الوجود، بحيث يستحيل استحالة قاطعة الخلط بينهما في التصور؛ فهنالك الذات الإلهية الخالقة، ثم هنالك عالم الكائنات المخلوقة لتلك الذات، وبين هذه الكائنات المخلوقة كائن أراد له خالقه أن يتميز ليحمل إلى الدنيا أمانة أؤتمن على حملها ونشرها، ذلك هو الإنسان.
ويترتب على هذا التصور عدة فروع: منها: أن الإنسان كائن أخلاقي، بمعنى أنه مكلف بأن يحقق في سلوكه قيمًا أخلاقية محددة ومعينة، وهذه مسؤولية كل فرد على حده لا يجوز أن يحملها فرد عن فرد آخر، وهذا التصور الأخلاقي للإنسان يقوم على افتراض أسبقية المبدأ الأخلاقي على التجارب، كما أن هذا التصور يفترض -أيضًا- أسبقية المعيار الذي يقاس به السلوك في صوابه وخطئه(2).
2- الإنسان:
فيما يتعلق بالإنسان، نلاحظ أن الرؤية الغربية تَرُد الإنسان إلى النظام الطبيعي المادي الذي يصبح جزءًا لا يتجزأ منه، فالإنسان -وفقًا للنموذج الغربي المعاصر– كائن طبيعي (مادي) موجود في كليته داخل النظام الطبيعي (المادي) يعيش في الطبيعة وبها ومنها وعليها، ولا وجود له خارجها، جزء لا يتجزأ منها، يسري عليه ما يسري على الكائنات الأخرى، والإنسان وفقًا لهذا المرتكز أهدافه مدمجة في الطبيعة وليست له أهداف مستقلة عنها أو فوقها بحسب القانون الطبيعي الذي يسري على كل الكائنات، الذي يفسر الإنسان في ضوئه من خلال القوانين الطبيعية(3).
إن الحضارة الغربية المعاصرة تدور حول هذا الإنسان الطبيعي الذي لا يمتلك -بحسب مرجعيتها- إلا الجانب المادي، ولا يتكون إلا من الحواس والجسد، وليست له متطلبات إلا الإشباع المادي من خلال الرؤية والسماع وباقي الأجهزة التي تلبي احتياجات تلك النظرة الطبيعية إلى الإنسان، وكل إشباعات الإنسان لا تخرج عن الطبيعة، فهي القادرة -حسب هذا المنظور المادي- على تحقيق كل احتياجاته، ومن ثم فالإنسان يستمد من الطبيعة كل منظومته القيمية التي لا تخرج عن غايات ووسائل إشباع تلك الاحتياجات وتوفيرها بأقصى صورة التي تتحقق بها سعادته أو بالأحرى لذته.
أما الرؤية الكونية القرآنية فتقوم على فكرة الازدواجية في تصورها للإنسان، فتـرى أن طبيعته تتكون من عنصرين، هما: العنصر المادي، والعنصر الروحي، ففي التكوين المادي يتكون الإنسان من عناصر الطبيعة: طين، وطين لازب، وتراب، وحمأ مسنون، وصلصال، يقول الله تعالى: (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ) (آل عمران: 59)، (خَلَقَكُم مِّن طِينٍ) (الأنعام: 2)، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) (الحجر: 26)، (إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِب) (الصافات: 11)، (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) (الرحمن: 14)، أما التكوين الروحي: فهو النفخة الإلهية في هذه العناصر المادية والتي جعلت للإنسان وجودًا متميزًا عن باقي الخلق، يقول الله تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (ص: 72).
بهذا المعنى، فإن الطبيعة الإنسانية في نظر الإسلام في تكوينها طبيعة مزدوجة، مكونة من حقيقتين مختلفتين: إحداهما روحية سماوية من عند الله، والأخرى مادية أرضية، قبضة من طين، ونفخة من عند الله تعالى، وقد نتج عن هذا التركيب مجموعة من الصفات يرجع بعضها إلى طبيعة التكوين المادي، ويرجع بعضها الآخر إلى طبيعة التكوين الروحي، ويرجع بعضها الثالث إلى خاصية هذا التركيب الذي من خلاله تتحقق طبيعة الإنسان، وبهذا التركيب يتحقق التنسيق بين القوى المادية والروحية في حياة الإنسان وبين النظام المادي والنظام الروحي في حياته الخلقية، وتوجيه السلوك وتحقيق الغايات(4).
الإنسان في الرؤية القرآنية -حسب هذا التصور المزدوج لطبيعته- ينزع دائمًا إلى عالم آخر غير الذي يعيش فيه، ويرى أن كماله وسعادته ليست في تحصيل اللذة أو المنفعة المؤقتة -رغم ضرورتهما الحياتية- ولكنها تظل حالة مؤقتة وسعادة مؤقتة، يبحث في داخله عن السعادة الدائمة واللذة الدائمة التي يشعر بها في قرارة نفسه أنها في عالم آخر هو أرقى وأخلد مما يعيش فيه، ومن ثم يستمد الإنسان في الرؤية القرآنية منظومته القيمية من هذا العالم الذي يتسم بالثبات والخلود والديمومة، الذي يجعله حاكمًا على هذا العالم المادي المتغير بصورة دائمة، وهو يعيش وفقًا للقانون الإلهي (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص: 77).
3- القيم والأخلاق:
فيما يتعلق بالجانب القيمي والأخلاقي، نلاحظ في الرؤية الغربية المادية غياب المقدسات والغائيات التي يمكن للأخلاق أن تستمد منها معيار صوابها وخطئها ومعايير الأحكام القيمية للسلوك الإنساني الراشد، فالمنظومة المادية الغربية لا تعرف المقدسات أو المطلقات أو الغائيات، وهدف الإنسان من الكون هو عملية التراكم والتحكم فقط، والقوانين الأخلاقية لا وجود لها إذ لا يوجد سوى المنفعة واللذة وتعظيم الإنتاج بهدف تعظيم الاستهلاك.
وفقًا لهذه الرؤية نجد أنه من الصعب قيام أي معيارية أخلاقية في هذه المنظومة المعرفية المادية؛ لأن الواقع لا اتجاه له، ولأنه لا ثبات في الكون، ولأن الحقائق منفصلة عن القيمة، ولأن كل الأمور متساوية، بسبب كل هذا لا يمكن قيام أي معيارية أخلاقية، ولا يمكن تأسيس نظم أخلاقية عامة وإنما يمكن تأسيس اتفاقات محدودة الشرعية لا تتحدد في ضوء منظومة أخلاقية كلية وإنما في ضوء الوظيفة والنتيجة، كل ما يمكن التوصل إليه هو أخلاقيات برجماتية تأخذ شكل فلسفة القوة والهيمنة للأقوياء، وفلسفة الإذعان والتكيف للضعفاء، إذا لا توجد معايير متجاوزة للإنسان، ولا يوجد وسيلة لتعريف الظلم والعدل(5).
في المقابل، فإن الرؤية القرآنية التي تقوم على وجود إله واحد يحكم هذا الكون وهو الخالق والمدبر له، تؤكد أن الله تعالى هو لب المعيارية في هذا الكون، وهو الأساس القيمي الذي يستمد المسلم منه قواعد وتضمينات سلوكه الأخلاقي وفعله القيمي، ويمثل الله القيمة العليا في سلسلة القيم للمسلم التي ينتهي إليها نظامه القيمي، وتلك الإرادة الإلهية هي التي تحدد للإنسان ما ينبغي أن يكون عليه كل ما في الوجود، حتى في الحالات التي لا يترتب على إنجازها بالفعل واجب تكليفي نابع منها عليه، وبرغم أن تلك الذات الإلهية مطلقة وغيبية فإنها ليست معزولة عما هو قيمي، ولا قابلة للتأكيد عليها على حسابه، ولو قُدر للمسلم أن يستخدم هنا مقولة قيمة المعرفة لوجدنا لسان حاله يقول: إن قيمة الغيبي الماورائي هو أنه يقوم بدوره الفاعل بوصفه مصدر الأمر التكويني أو مولد الدافعية، أو المعيارية(6).
كما تقوم الرؤية القرآنية على أصل البراءة والطهارة للإنسان من الخطايا والآثام، فالإنسان يولد وصفحته بيضاء (مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) (الإسراء: 15)، ومن ثم فهو حر يتحمل وحده فردًا ما يكسبه (مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) (فصلت: 46)، كما أنه لا أحد ينفع أحد أو يضره ؛ (لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلَا ضَرًّا) (سبأ: 42).
_____________________
(1) عبدالوهاب المسيري: العالم من منظور غربي، القاهرة، دار الهلال، 2000، ص124.
(2) زكي نجيب محمود: ثقافتنا في مواجهة العصر، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، 1997م، ص59.
(3) عبدالوهاب المسيري: العالم من منظور غربي، ص 125.
(4) مقداد يالجن: التربية الأخلاقية الإسلامية، القاهرة، دار الشروق، ص 75.
(5) عبد الوهاب المسيري: الحداثة وما بعد الحداثة، حوارات لقرن جديد، دمشق، دار القلم، ص94.
(6) إسماعيل الفاروقي: التوحيد ومضامينه في الفكر والحياة، عمان، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص66.