تمرض الأمم كما يمرض الأفراد، فتحتاج إلى يد طبيب يفحصها فتحدد الداء وتصف الدواء لتتعافى من جديد وتعود لسابق عهدها، وهو القانون الذي يسير على كل الأمم بما فيها الأمة الإسلامية التي هي خير الأمم، إذ إن خيريتها ليست مطلقة، ولكنها مرهونة بحيثيات والتزامات، فإذا ما تلاشت فقدت هذه الخيرية وكانت كغيرها من بقية الأمم معرضة للمرض أو للتخلف، يقول الله عز وجل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران: 110).
فمتى تخلت الأمة عن هذا الدور المهم وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضلاً عن الإيمان بالله عز وجل تخلفت، وأضحت في حاجة ماسة إلى من يعيدها لصوابها ينفض عنها الغبار ويشعل في داخلها شعور المسؤولية والوعي بطبيعة الدور المنوطة به.
ولقد تعارفت الأمم على هذه العملية الإصلاحية باعتبارها عملية مهمة وحتمية، فالإصلاح في عمومه وجوهره عملية يقوم بها البعض للدفع بتحسين وتغيير أي شيء لجعله أفضل أو أكثر ملاءمة؛ الأمر الذي يكون له بطبيعة الحال انعكاساته الإيجابية على مختلف المجالات في المجتمع، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو ثقافية أو فكرية، فيما أن الإصلاح من المنظور الإسلامي يعني العودة إلى المبادئ والقيم الإسلامية الصحيحة وتصحيح الممارسات التي تتعارض معها ومن ثم فهو عملية مستمرة لا تتوقف.
أهمية التغيير
وليس أجدر من فئة الشباب للقيام بهذه المهمة الإصلاحية، فقد كانوا وما زالوا هم الذين يحملون على عاتقهم مسؤولية الإصلاح والإيمان بأهمية التغيير، تشهد بذلك الكثير من الشواهد عبر التاريخ، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم عندما تحدث مثلاً عن نبي الله إبراهيم عليه السلام حيث قام بتحطيم التماثيل التي كان يعبدها قومه، وهو السلوك الذي حمل الكثير من الشجاعة والمجازفة في إطار المحاولة للتغير وإصلاح المسار وتنبيههم لسخف ما يفعلون.
وكذلك ما كان من النبي موسى عليه السلام وقد كان شاباً حيث حاول أن ينجو بقومه -بني إسرائيل- من القهر والاستضعاف الذي عاشوه تحت حكم فرعون مصر، فكانت دعوته التي لاقت استجابة وقبولاً من الشباب يقول الله تعالى: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (يونس: 83)، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن الشباب هم الفئة الأكثر استعداداً للتضحية وتحمل الأعباء والمشاق في سبيل تحقيق الأفضل.
كما قدم القرآن الكريم نموذجاً آخر لمجموعة من الشباب المؤمن الذين استجابوا لربهم ودعوا إلى الخير ثم اعتزلوا المجتمع الفاسد وهم أصحاب الكهف الذين قال الله تعالى فيهم: (نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (الكهف: 13).
والنماذج حول ذلك أكثر من أن تحصى، غير أن لنا في الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم نموذجاً حسناً، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد بُعث بالرسالة ولم يزل في سن الشباب إذ كان في الأربعين من عمره فيما كان أغلب من آمن به وتحمس لدعوته وناصره في مواجهة الكفار والمشركين هم أيضاً من الشباب الذين لم يبلغوا الأربعين بعد، وهي المناصرة التي كانت عوناً كبيراً على نجاح دعوة الإسلام وبقاء رايته خفاقة حتى اليوم.
لماذا الشباب؟
في هذا الإطار، ربما يتساءل البعض: ولماذا كل هذا التعويل على فئة الشباب دون غيرهم للقيام بهذه المهمة؟ أليست الدوافع للإصلاح والرغبة فيه لدى الشباب بنفس المستوى لدى الآخرين؟
الحقيقة أنه وبشكل شبه قاطع لا يمكننا أن نساوي بين فئة الشباب وغيرهم فيما يتعلق بالرغبة في الإصلاح، فلدى الشباب سمات شخصية مميزة تدفعهم للاستجابة لدعوات الإصلاح والبحث عما هو أفضل، ومن هذه السمات:
أن الشباب بالغريزة تستميله المثاليات في كل الأمور التي هي أحد تجليات الفطرة السليمة، فيما أن هؤلاء الذين تجاوزوا مرحلة الشباب يكونون أكثر واقعية وتكيفاً مع الظروف الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية السائدة الأمر الذي يكسب الشباب الهمة العالية نحو الإصلاح والتغيير؛ لذا قاد الشباب أغلب الثورات الكبرى.
الحماسة والقدرة على الفعل إذ ليس كل رغبة يتبعها فعل، فالفعل يحتاج إلى قوة حقيقية باستطاعتها تلبية ما يطمح إليه المرء، وهو ما يتوافر لدى الشباب دون غيرهم.
والقدرة هنا ليست جسمانية فحسب، ولكنها أيضاً نفسية ومعنوية تعبر عن الروح المتحفزة والمتقدة وغير العابئة بما وراء صاحبها في حال أقدم على التضحية بنفسه دفاعاً عما يؤمن به، مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الولد مبخلة مجبنة مجهلة».
وباعتبار أن الشباب في أمتنا الإسلامية وفق الإحصاءات هم الفئة الأكثر عدداً، فإن ما يعبرون عنه ويسعون لتحقيقه من إصلاح هو ما تهفو إليه نفوس الأغلبية الجماهيرية التي تتطلع لمستقبل وحياة أفضل بعيداً عن حالة الاستسلام أو الركون التي هيمنت على الذين تجاوزوا سنوات الشباب.
ولعل إدراك الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الحيثيات هو مما يفسر إسناده صلى الله عليه وسلم للكثير من المهام الدعوية والعسكرية والتنفيذية لمن حوله من الشباب؛ فيستخلف عتاب بن أسيد على مكة وهو ابن واحد وعشرين عاماً، ويأمر بإنفاذ جيش أسامة بن زيد وهو لم يبلغ العشرين بعد، ويلقب خالد بن الوليد بـ«سيف الله المسلول» وهو في السابعة والثلاثين من عمره، ويسمح بقيادة جعفر بن أبي طالب لجيش مؤتة وهو في الثالثة والثلاثين، وغير ذلك من النماذج العديدة.
الأدوار المطلوبة
وتتعدد الأعمال والأدوار التي يمكن أن يساهم بها الشباب في الإصلاح التي تختلف أهميتها وفق حاجيات الأمة، فالمشاركة في الدعوة وإبراز القيم الإسلامية المدنية والحضارية خاصة أمام المجتمعات الغربية يبرز كسلاح مهم في مواجهة محاولات النيل من الإسلام وتشويه صورته، وهو ما يساهم بفاعلية في طرح هذه القيم وحضورها ثقافياً وفكرياً.
كما يأتي حرص الشباب على بذل الجهد من أجل التعليم واكتساب المعرفة ونقل خبرات المجتمعات المتقدمة كعامل لدعم الأمة في مواكبة المستجدات وتطوير المجتمع من خلال تقديم حلول للمشكلات المعاصرة والمساهمة في التقدم التكنولوجي والعلمي، وهو ما يؤكده حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها».
وعلى مستوى الإصلاح الاقتصادي يمكن للشباب أن يمارسوا دوراً كبيراً في دعم الفئات المجتمعية المحتاجة لتحقيق العديد من الأهداف النهضوية؛ كالعمل على تخفيف حدة الاحتقان الطبقي، والدفع بهذه الفئات وتأهيلها للمشاركة في عملية البناء وترسيخ روح التعاون والتضامن بين أفراد المجتمع.