لم يترك التشريع الإسلامي ثغرة يمكن أن يتخل من خلالها الهوى الإنساني للتلاعب بالعلاقات الإنسانية الفردية والاجتماعية والدولية، وإنما جاءت النصوص موضحة بشكل تفصيلي العلاقة بالجار المسلم وغير المسلم وحقوق كل منهما عند الآخر، هذا من ناحية المجتمع الواحد.
وكذلك العلاقة السياسية بين دول الجوار في حال إذا كان جار غير مسلم ووضع محددات لتلك العلاقة التي لا يجوز تجاوزها أو التلاعب بها إلا أن يبغي الجار على جاره، فهنا تتغير القواعد والتعاملات، وبالرغم من ذلك فهي تتشكل وفق مجموعة القيم والأخلاق الإسلامية التي فرضها الله تعالى وكان منطلقها قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
والخطاب في القرآن متنوع، فهو حيناً يوجه لكافة الناس مؤمنهم وكافرهم، مثل قوله تعالى: «يا أيها الناس»، وحيناً آخر للمؤمنين، مثل قوله: «يا أيها الذين آمنوا»، وحيناً للكافرين، أو بعض صنوفهم، مثل قوله تعالى: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء»، فالخطاب القرآني خطاب متنوع وموجه لجميع خلق الله بصيغ مختلفة تستدعيها حاجة الخطاب والتوجيه من رب العالمين.
ومن الأحاديث النبوية التي حذرت من التعامل مع الناس على أسس عنصرية وتقييمهم من خلال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لَيَنْتَهِيّنَ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ الّذينَ مَاتُوا إِنّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنّمَ، أَوْ لَيَكُونُنّ أَهْوَنَ عَلَى اللّهِ مِنَ الْجُعَلِ الّذِي يُدَهْدِهُ الْخرءَ بِأَنْفِهِ، إِنّ اللّهَ قد أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبّيّةَ الْجَاهِلِيّةِ وَفَخْرَهَا بالآباء، إِنّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقيّ وَفَاجِرٌ شَقيّ، النّاسُ كُلّهُمْ بَنُو آدَمَ، وآدَمُ خُلِقَ مِنَ تُرَابِ» (أخرجه الترمذي وحسنه)، فما الضوابط الشرعية في التعامل بين الدول؟
الأصل في الإسلام هو السلم
أرسل الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بينما أنهك الجزيرة العربية الحروب الدائرة بين القبائل، وأنهك العالم الحروب الدائرة بين قطبي الصراع في وقتها وهم الفرس والروم، فتنزل القرآن بخطاب جديد يحمل في طياته الرحمة والسلم والعدل والإغاثة ونصرة المظلوم والمستضعف، ومحاربة مفاهيم الإغارة والسطو والقوة الغاشمة الظالمة والمسلطة على رقاب الخلق، فيقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء 107)، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم رسالته قائلاً: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(1).
فالأصل هو الرحمة والسلام ما لم يتم اعتداء لقوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)، والنبي صلى الله عليه وسلم حين قدم إلى المدينة وضع دستور التعامل بين أفراد المجتمع الواحد الذي كان اختلاطاً من المسلمين والمشركين واليهود والمنافقين، فلم يرفض التعامل مع الآخرين باعتبار المسلمين هم أغلبية أهل المدينة، فكانت الأخوة مبدأ التعامل بين المؤمنين، وكان التعاون والسلام هو مبدأ التعاون بين المسلمين وغيرهم، وظل المجتمع مترابطاً حتى تآمر هؤلاء على الدولة الوليدة، وصبر النبي صلى الله عليه وسلم على تآمرهم حتى تحول لخيانة للمواثيق والعهود؛ فكانت الحرب وإخراجهم من المدينة.
ثم كانت الخطابات الدولية بين دولة المسلمين في المدينة وغيرهم تحمل احتراماً لتلك الدول، فكانت رسائل النبي صلى الله عليه وسلم لهم بصيغ تحمل تقديراً لقادتها وليس استهانة بهم أو وضعاً من مكانتهم، ولم تبادر الدولة المسلمة بحرب، وإنما كانت الحروب لأسباب في مجملها هو حماية السلم وضمان الحرية لكل إنسان.
الحروب في الإسلام
والحروب في الإسلام لم تنطلق إلا لأسباب إنسانية في أصلها إما لاسترداد بعض الحقوق مثل غزوة «بدر»، وإما لصد عدوان مثل «أُحد» و«الأحزاب»، ومنها ما هو تأمين لعبادة المسلمين مثل «فتح مكة» التي ردوا عنها ولم يستطيعوا أداء فريضة الحج، ومنها توصيل دعوة الله عز وجل للمستضعفين الذين لم تبلغهم دعوة التوحيد لتعنت حكامهم، كذلك كانت لتأديب الخارجين على الدولة من بني جلدتها مثلما حدث في حروب الردة حين عطل البعض فريضة الزكاة، ولا يخفى على أحد خطورة الخروج على قوانين الدولة وقيمها الأساسية وخاصة ما يتعلق فيها بأمور العقيدة والشريعة وما يمكن أن يؤدي من فوضي وانفراط لعقدها.
والحق بدون قوة تحميه وتذب عنه ما هو إلا فتنة تفتن الضعفاء، فالحرب في هذه الحالة هي حفظ للسلم العام ودين وسلامة الإنسان، فعلاقة الجوار علاقة تنبني على السلم إلا أن يعتدي الجار، فهنا تتوجب الحرب للدفاع عن الحدود والثوابت ويكون الجهاد.
العهود والمواثيق مع غير المسلمين
المعاهدات هي اتفاقات وبنود تضعها الدول لتحديد طريقة التعاون فيما بينها لحفظ حدودها وضمان مصالح مواطنيها، والسيرة النبوية المشرفة تشهد بالعديد من المعاهدات بين المسلمين وغيرهم، مثل معاهدته صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة، ومعاهدته كذلك مع نصارى نجران ومع بني ضَمُرَة(2)، وأيضًا عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بني مدلج، الذين يعيشون في منطقة ينبع، وذلك في جُمَادى الأُولَى من السنة الثانية من الهجرة(3)، وكذلك عقد المعاهدات مع قبائل جهينة في الشمال الغربي للمدينة(4)، وكذلك فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين ولي أمر المسلمين بعقد ما سمي بـ«العهدة العمرية»؛ وهي معاهدته مع أهل إيلياء (بيت المقدس).
وأما أهم أسس وضوابط هذه المعاهدات فيقول د. محمود شلتوت(5):
أوَّلاً: ألاَّ تمسَّ قانونه الأساسي وشريعته العامَّة، الَّتي بها قِوَامُ الشخصية الإسلامية، وقد جاء في ذلك قوله: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ»(6)، ومعناه أنَّ كتابَ الله يرفضه ويأباه، ومن خلال هذا الشرط لا يَعْتَرِفُ الإسلامُ بشرعية معاهدةٍ تُسْتَبَاحُ بها الشخصية الإسلامية، وتفتحُ للأعداء بابًا يُمَكِّنُهم من الإغارةِ على جهات إسلامية.
ثانيًا: أنْ تكونَ مبنيةً على التَّراضي من الجانبين، ومن هنا لا يرى الإسلام قيمة لمعاهدة تنشأ على أساسٍ من القهر والغلبة وأزيز «النفاثات»، وهذا شرط تُمْلِيهِ طبيعة العقد، فإذا كان عقد التبادل في سلعة ما؛ بيعًا وشراءً، لا بُدَّ فيه من عُنْصُرِ الرِّضا: (إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) (النساء: 29)، فكيف بالمعاهدة، وهي للأُمَّة عقدُ حياةٍ أو موتٍ؟!
ثالثًا: أنْ تكونَ المعاهدة بيِّنةَ الأهدافِ، واضحةَ المعالمِ، تُحَدِّدُ الالتزامات والحقوق، وفي التحذير من هذه المعاهدات غير الواضحة والمباشرة يقول الله تعالى: (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (النحل: 94).
ومن تلك النقاط المختصرة يمكن أن نتبين طبيعة العلاقات الدولية مع غير المسلمين، وكيف أن الحضارة الإسلامية قد سبقت العالم بأربعة عشر قرناً في وضع المواثيق الدولية وتحديد السياسة الخارجية والقواعد الإنسانية للدول والمبنية على السلام والاحترام المتبادل والقوة العادلة.
_____________________
(1) ذكره البخاري في المفرد.
(2) وهي من القبائل العربية من بطون عدنان.
(3) السيرة النبوية لابن هشام (3/ 143).
(4) الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 272).
(5) أحد شيوخ الأزهر.
(6) البخاري باب المكاتب.