يرتكز التواصل بين الحضارات على عدد من الأصول الثابتة التي تسهم في تهيئة البيئة الصالحة لقيام التواصل البنّاء بين الحضارات، ومن هذه الركائز ما يأتي(1):
أولاً: الإقرار بحقيقة الاختلاف بين الناس:
يعد الاختلاف بين الناس من الحقائق الكبرى في هذه الدنيا، فقد خلق الله البشر جميعاً وجعل الاختلاف بينهم آية من آياته الكبرى، حيث قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم: 22)، وقال عز وجل: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود).
فالاختلاف طبيعة الحياة، والتنوع الحضاري والثقافي سُنة الكون، بل إن التعددية والاختلاف في الدين واللون والجنس والعرق واللغة حكمة لمشيئة إلهية قد خلق الله البشر عليها، فالاختلاف بين الناس آية من آيات الله تعالى، ودليلٌ على قدرته وعظمته، وإذا كانت الحكمة الإلهية قد اقتضت الاختلاف بين الناس، فإن ذلك لا يدعو إلى النزاع والصراع، وإنما يدعو إلى التعارف والتآلف، واستثمار هذه التعددية في تحقيق النفع لجميع أفراد الوجود الإنساني، استجابة لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
ثانياً: الاعتراف بالأخوة الإنسانية:
دعا الإسلام إلى التواصل بين الحضارات من خلال توجيه الأنظار إلى الاعتراف بالأخوة الإنسانية بين البشر، انطلاقاً من الإيمان بالله الذي خلق الناس جميعاً، وفي ذلك قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء: 1)، وقال عز وجل: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (الأنعام: 98)، ففي الآية تأكيد على وحدة الأصل الإنساني، الذي يدعو إلى التلاقي بين البشر تحت مظلة الأخوة الإنسانية التي تجمع البشر جميعًا، وتُوحدهم وتسوي بينهم.
وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الأخوة في كثير من آياته، في الحديث عن الأنبياء وأقوامهم، فيصف النبي بالأخوة لقومه، وهم كفار وهو مؤمن، فكان المقصود بالأخوة هي الأخوة الإنسانية، ومن ذلك قوله تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) (الأعراف: 65)، وقوله عز وجل: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) (الأعراف: 73)، وقوله سبحانه وتعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) (الأعراف: 85).
ومن مظاهر هذا الاعتراف: حسن التعامل مع غير المسلمين، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثال في ذلك، حيث نهى عن الاعتداء عليهم، قائلاً: «ألا مَن ظلمَ مُعاهدًا، أوِ انتقصَهُ، أو كلَّفَهُ فوقَ طاقتِهِ، أو أخذَ منهُ شيئًا بغَيرِ طيبِ نفسٍ، فأَنا حَجيجُهُ يومَ القيامةِ»(2)، وكانَ سَهْلُ بنُ حُنَيْفٍ، وقَيْسُ بنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بالقَادِسِيَّةِ، فَمَرُّوا عليهما بجَنَازَةٍ، فَقَامَا، فقِيلَ لهما: إنَّهَا مِن أَهْلِ الأرْضِ أَيْ مِن أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقالَا: إنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَرَّتْ به جِنَازَةٌ فَقَامَ، فقِيلَ له: إنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقالَ: «أَليسَتْ نَفْسًا؟!»(3)، ففي هذا دليل على مراعاة الأخوة الإنسانية في أسمى صورها.
ثالثاً: الإيمان بضرورة التواصل بين الحضارات:
يُعد التواصل بين الحضارات من الضرورات الشرعية والواقعية في الحياة الإنسانية، أما الضرورة الشرعية فتتبين في الحرص على التعريف بالإسلام والدعوة إليه، وذلك من خلال فتح قنوات اتصال مع الآخرين في كل بقاع الأرض، استجابة لقول الله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {104} وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران).
أما الضرورة الواقعية فتظهر في اليقين بالمنافع التي تعود من خلال التواصل الحضاري، والحماية من السلبيات الناتجة عن الانغلاق على النفس والانقطاع عن الآخرين، والناظر إلى الواقع المعاصر يجد أن التواصل الحضاري بات أمراً ملحاً؛ لما تقتضيه ظروف العصر، ولا يمكن لعاقل أن يدعو للانزواء والانغلاق خصوصاً في هذا العصر الذي تحول فيه العالم إلى قرية صغيرة بفضل وسائل الاتصالات التي لم يشهد التاريخ الإنساني لها مثيلاً قبل ذلك(4).
رابعاً: إزالة عوائق التواصل بين الحضارات:
يحتاج التواصل بين الحضارات إلى بيئة صالحة لذلك، فيجب على أبناء الحضارات المختلفة أن يجتهدوا في إزالة العوائق التي تعرقل عملية التواصل الحضاري، ومن هذه العوائق: سباق التسلُّح، والظلم الاجتماعي، والفساد، وعدم المساواة، والتدهور الأخلاقي، والإرهاب، والعنصرية والتطرف.. ومنها: سياسات التعصب والتفرقة التي تعبث بمصائر الشعوب ومقدراتهم، وأنظمة التربح الأعمى، والتوجهات الأيديولوجية البغيضة.. إلى غير ذلك من العوائق التي ترفضها الشرائع السماوية، وتدعو إلى مواجهتها وتحرص على التخلص منها من أجل إقامة الحياة الكريمة للناس جميعاً.
خامساً: الالتقاء على القواسم المشتركة بين الناس:
من الأسس التي تقوم عليها عملية التواصل بين الحضارات: الالتقاء على القواسم المشتركة بين الناس، فالاستثمار الجيّد للرصيد الثقافي المشترك بين الحضارات من شأنه تعميق التواصل بينها، حيث يبدد غيوم الشك وسوء الفهم، ويمهد السبيل إلى التفاهم العميق، والإعلان عن الرغبة المشتركة في التعايش(5).
وقد عبرت الدعوة الإسلامية عن هذا المعنى من خلال الحث على التلاقي في المساحة الهائلة للقيم الروحية والإنسانية والاجتماعية المشتركة، واستثمار ذلك في نشر الأخلاق والفضائل العليا التي تدعو إليها الأديان، وتجنب الجدل العقيم، فعلى أبناء الحضارات المختلفة أن يبحثوا عن المساحات المشتركة بينهم، سواء كانت هذه المساحات دينية أم علمية أم اجتماعية أم اقتصادية أم سياسية أم ثقافية.
إن التواصل بين الحضارات الوسيلة التي دعا إليها الإسلام لإنقاذ البشرية من النزاع والصراع والتخلف، وهو السبيل إلى البناء الحضاري الذي يرتقي بالأمة الإسلامية، لنشر دعوتها وإقامة حضارتها، ومن مرتكزات هذا التواصل بين الحضارات تأكيد النقاط المشتركة بينها، والانطلاق منها لمد جسور التواصل الإنساني، كالإنسانية، وأصل الديانات السماوية، ومعيار التفضيل، وسنة الاختلاف والتعدد، ومعالجة المعوقات التي تقلل من فاعلية التواصل الحضاري، مثل: التعصب والكراهية والعنف والإرهاب، واستغلال مقدرات الشعوب.
فعلينا أن نركز على بناء شخصية الإنسان المسلم المتكاملة الجوانب، وإبراز ركائز الإسلام وقيمه الداعية للتعايش، والقبول بالآخر، وعدم إقصائه، ودعم الباحثين والأكاديميين المختصين في الجامعات ومراكز البحوث التي تتعلق بالتواصل بين الحضارات وفق قيم إسلامية صحيحة، وإصدار موسوعات علمية متعلقة بالحضارة الإسلامية، والعمل على دحض الشبهات، والانتقادات الموجهة ضد الإسلام والمسلمين، وإظهار زيف تلك الافتراءات وفشلها، وإبراز التعاليم السمحة التي تقوم على التعددية، والحق، والعدل، والاحترام، والخير للإنسانية جمعاء.
________________________
(1) منهج الدعوة الإسلامية في التواصل بين الحضارات: د. رمضان حميدة محمد، ص 9.
(2) سنن أبي داود (3052).
(3) صحيح البخاري (1312).
(4) التواصل مع الآخر بين التفاعل المحمود والتبعية المذمومة: سيد عبدالحليم الشوربجي، ص 32.
(5) التواصل الحضاري: د. عبدالعزيز التويجري، ص 13