د. محمد أنور بيومي
إن من سُنن الله تعالى الماضية، وحكمه الجارية، أن الأمم إذا ضلت، والأجيال إذا انحرفت أرسل إليها قبسًا من نوره يضيء لها الطريق، ويردها إلى الجادة، ويعيدها إلى الحياة: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 151).
اثنان في الناس لا يقوم بهما الخلق أجمعون، ولا تستطيع الخلائق أن تصنع منهما فتيلًا ولا قطميرًا، هما: القرآن العظيم، والنبي محمد ﷺ.
أما القرآن فهو صفة الله عز وجل، وأما النبي ﷺ فصنعة الله سبحانه، ولا طاقة للخلق ولو ظاهر بعضهم بعضًا أن يضاهوا صنعة الله تعالى، ولا أن يحاكوا صفة من صفات الله جل شأنه.
ولقد حدثنا الله تعالى عن الاثنين كثيرًا في كتابه المجيد يعرف الناس بهما، ويبرز معالم العظمة والجلال فيهما، من ذلك قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {52} صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ) (الشورى).
إن للناس في الميلاد منازل متعددة، ودرجات متنوعة، يجب أن يتنبهوا لها، وأن يتبوؤوا قرارها المكين، وأول تلك المنازل معرفة رسول الله ﷺ، فإن الواجب على المسلم أن يمحو جهله بشخصية رسوله ﷺ، وأن يجفف منابع الأمية به في جنبات نفسه وحياته، بأن يتعرف عليه معرفة صحيحة، ويسائل نفسه كل يوم ماذا علمت عنه؟ وما قدر جهلك به؟ فإن جوانب المعرفة في رسول الله ﷺ بحر لا ساحل له، ونهر عذب متدفق يتصف بالعمق، والتعدد، والتنوع، كلما اكتشفت كنوزه اكتشفت جهلي به ﷺ.
وقد دعا الله قومًا إلى تلك المعرفة فقال سبحانه: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) (سبأ: 46)، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الأعراف: 184)، وأنكر على قوم لم يعرفوا رسولهم، ولم يرتشفوا قطرة من بحر معرفته، حتى صدئت قلوبهم، وجفت حلوقهم، وانحرف سبيلهم، فقال تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ {68} أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ {69} أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) (المؤمنون).
ومن جوانب المعرفة به أن تعرف اسمه، ونسبه، وكنيته، ولقبه، ومنشأه، وسيرته قبل مبعثه، وبعدها، ومصدر علمه، وأثره في نفسه وفي الخلق من حوله، وتتعرف على أخلاقه، وصفاته، وعلاقته بربه، وبالناس، وبالدنيا، وبالدين، وحكمه وسياسته، وغير ذلك مما تتفجر به ينابيع العطاء في بحر معرفته ﷺ.
المنزلة الثانية: استصحاب تلك المعارف في دروب الحياة، والسير على هداها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ) (النساء: 170)، وفي الحديث عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «يَا هَؤُلَاءِ، أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ؟»، قَالُوا: بَلَى نَشْهَدُ أَنَّهُ مَنْ أَطَاعَكَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَأَنَّ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ طَاعَتَكَ، قَالَ: «فَإِنَّ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ أَنْ تُطِيعُونِي، وَإِنَّ مِنْ طَاعَتِي أَنْ تُطِيعُوا أَئِمَّتَكُمْ، أَطِيعُوا أَئِمَّتَكُمْ، فَإِنْ صَلَّوْا قُعُودًا فَصَلُّوا قُعُودًا» (حديث حسن، أخرجه أحمد، وأبو يعلى، وابن حبان، وغيرهم، واللفظ لأحمد).
ومن المنازل الدفاع عنه ﷺ، وصد هجمات الكفار والمنافقين، واعلم أن من أفجر الفجور، وأقبح الكذب أن تذيع الخطب الرنانة في محبته، وأن تتناقل ذلك في كل ميدان، فإذا بحثوا عنك في لحظات الجد فقدوك، وإذا تطاول مجرم على جناب النبوة ما وجدوك، وإذا أساء فَسْلٌ إلى صورته وسيرته، تواريت جبنًا كما يتوارى الفأر من كلب نباح، أو ثعلب صياح.
أين أنت يا رجل؟! لقد حاول الصعاليك أن يعكروا بحر نبيك البطل ﷺ، فلماذا خذلت نفسك بالسكوت والتواري، ولم يسمع أحد لك حسًا ولا ركزًا؟!
فهل أتاكم نبأ ذلك الرجل الغشوم الجهول الذي اتهم أعدل الخلق وأوفاهم ذمة، وأطهرهم يدًا في قسمة الغنائم يوم «حنين»، فقال: اعدل يا محمد، وربما قال: اتق الله يا محمد، وغير ذلك، فقال عمر، وفي رواية: خالد: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فمنعه رسول الله ﷺ بقدر الله الغالب، وقضائه المكنون في ذلك الغشوم بأنه سيخرج من ذريته ونسله قوم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بُعِثَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِشَيْءٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ، وَقَالَ: أَتَأَلَّفُهُمْ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا عَدَلْتَ، فَقَالَ: «يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ» (متفق عليه، واللفظ للبخاري، وهو حديث له روايات متعددة، وهو مخرج في كتابي تحرير الأحكام).
ومن المنازل اتباعه، والاقتداء به ﷺ، فقد قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر: 7)، فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون، وإن تطيعوه تهتدوا، واحذروا مخالفته، ومشاققته، فإن ذلك يجلب الخزي والهزائم، وصدق من قال:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس شنيع.
لو كان حبك صادقًا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع.
والواجب على المسلم أن يعين منازله من نبيه ﷺ ويقرر لنفسه فيها مكانًا مكينًا، وقرارًا أمينًا، يقوم فيه ببعض الحق نحو نبيه ﷺ.